يقدم مسلسل فوضى الإسرائيلي، أهم المسلسلات الإسرائيلية الحديثة وأكثرها نجاحاً والذي يعرض على منصة «نتفلكس»، بطولات إحدى أهم وحدات الجيش الإسرائيلي في مكافحة «الإرهاب» وملاحقة «المخربين» في أكثر من ساحة فلسطينية. في الجزء الرابع من المسلسل، الذي عرض قبل بضعة أشهر، تم تسليط الضوء على المعارك الإسرائيلية في ساحة الضفة الغربية، وخاصة جنين. تعكس الرواية الصهيونية في عدة مشاهد علاقة «الإرهاب الفلسطيني» بحليفه العربي والإسلامي والأممي المتمثل بخطر إيران وحزب الله، على اعتبار أن المقاومة الفلسطينية «ذيل» لهذا المحور كما يصوره الخيال الدرامي الصهيوني في «فوضى»، وهي سردية صهيونية تستخدم في الإعلام أيضاً. كما يحاول المسلسل سلخ حالة المقاومة في جنين عن حاضنتها الشعبية.تربط حلقات المسلسل اشتعال المعارك في جنين، بالحليفين الإقليميين إيران وحزب الله، فيقفز الخيال الصهيوني باكتشافه خلية «إرهابية» في جنين تعمل لمصلحة حزب الله، تمتد عملياتها لتصل إلى حد اختطاف أحد قادة الوحدات الصهيونية في أوروبا على يد عناصر لها بتنسيق فلسطيني لبناني، إضافة إلى العمل «الإرهابي» المستمر في جنين.

أولاً، من يقود المعركة؟
يعمل القائمون على مسلسل فوضى على إخفاء فلسطينية الصراع في روايتهم. ففي كل الأجزاء، يظهر الفلسطيني المقاوم كمخرب لا يمتلك أي هدف وطني تحرري، وكذيل لأيّ جهة تحرّضه على إراقة الدماء. في هذا الجزء تحديداً، نرى إيران تتصدر المشهد، وتتحمل مسؤولية تبعية الفلسطيني الإرهابي. ففي أحد المشاهد، خلال تحقيق أحد قادة أجهزة السلطة «أبو أسامة» مع زوجة عادل أحد «المخربين» الفلسطينيين، يقول «أبو أسامة»: «عادل بيغدرني وبيغدر المخيم وكل الفلسطينيين، وبينضم لمين؟ للإيرانيين، للشيعة الكلاب»، ليقول لعادل بعدها في مشهد آخر إنه: «خائن وعار على الأمة العربية». كما يتهم والد الشهيد «أبو خالد» المقاومين بالتبعية لخامنئي ونصر الله في مشهد احتكاكه مع المقاومين بعد استشهاد نجله. وفي مشهد آخر، نرى علم حزب الله في مختبرات الإعداد والتحضير للمقاومة، ويتم التركيز على كون «الضاحية الجنوبية» لبيروت مركز «الإرهاب» الذي يصدّر عمله التخريبي إلى فلسطين. كل ذلك بهدف محو الذاتية الفلسطينية في معركة التحرر، وبهدف محو سنوات من الاجتهاد الفلسطيني في خلق وسائل مقاومة من العدم.
استطاع انتصار المقاومة في «بأس جنين» هدم تلك البروباغندا الصهيونية، إذ كانت التغطية الحقيقية للمعركة على الشاشات وعلى مواقع التواصل الاجتماعي النقيض الواقعي للخيال الصهيوني


إن هذا الخطاب الصهيوني في تصوير المقاومة الفلسطينية كتابع للأطراف الدولية أو الإقليمية ليس بجديد، بل هو خطاب تتم إعادة تدويره بتغيّر الأطراف الفاعلة في القضية الفلسطينية، وهو خطاب يتبنّاه الليبراليون العرب أيضاً، ونراه اليوم في مقالات كتاب «رصيف 22» وغيرها من المواقع التي تروّج لكون المقاتل الفلسطيني ذراعاً إيرانية في تساوق مع الرواية الصهيونية. على مرّ الأزمنة، وحقبات المقاومة الفلسطينية، كان ذلك نفس الخطاب الذي يفرزه المسار الصهيوني في محو الشعب الفلسطيني ونضاله، كان غسان كنفاني قد تطرق إلى تلك الرواية، في إحدى مقالات «فارس فارس»، متهكماً على مقالة لعمر حليق الذي وصف المقاومين بالمراهقين الذين يقاومون من أجل عرين جمال عبد الناصر في عصره، وعن تبعية الفلسطينيين للسوفيات.
إن أبسط تفنيد لمثل تلك السردية أن من يقاوم في جنين اليوم هم أبناؤها على مختلف خلفياتهم وتوجهاتهم السياسية، وهو ما يظهره مقطع كتيبة جنين بعد معركة «بأس جنين»، حيث يرتدي الملثّمون خلال تلاوة البيان عصبات جبين تابعة لمختلف الفصائل الفلسطينية المقاومة، فيؤكدون فيه أنهم الصف الأول في وجه العدو حتى تحرير الأرض، ويوضحون العلاقة بينهم وبين الفصائل الفلسطينية كجبهة موحدة، والمقاومة العربية والإسلامية ودورها في دعم المقاومة الفلسطينية. إن التأكيد على الالتزام الفلسطيني بنهج المقاومة حتى التحرير، رفض للرواية الصهيونية التي تظهر المقاومة كفاعل مخرب اعتباطي لا يمتلك أي هدف تحرر ذاتي.

ثانياً، دور الحاضنة الشعبية
في مشاهد عديدة ومتفرقة، يظهر مسلسل «فوضى» الفلسطينيين عامة، وأهل جنين خاصة كجزء منفصل عن حالة المقاومة في المدينة والمخيم، في محاولة لسلخ المقاومة الفلسطينية عن حاضنتها الشعبية. في بداية الحلقة الثامنة، وتحديداً من الجزء الرابع، يعرض المسلسل للمشاهدين احتكاك «أبو خالد» والد أحد الشهداء مع مقاومين، أثناء محاولتهم وضع ملصق للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وملصق آخر للمقاومة الفلسطينية، فيقابلهم «أبو خالد» بالشتائم والسخرية، فيوجّه حديثه للمقاتلين ويحمّلهم ذنب مقتل ابنه، على أساس أن المقاومة الفلسطينية وخلفها حسن نصر الله يضحّون بأبنائهم كالـ«الخرفان» بحسب تعبيره. وفي المشهد نفسه، يقتحم جيش الاحتلال الشارع لاعتقال «أبو خالد» ليقول لهم: «جاي معكم برضاي» و«ابني ما مات شهيد، ابني قتلوه»، وكأنه مدرك لذنب «المخربين». أما خلال التحقيق حين تقول المحققة «ابنك إرهابي، حاول يقتل واحد منا في بيته» يردّ أبو خالد على المحققة: «كله بسبب عادل، عمله غسيل دماغ وكذب عليه مثل ما كذب على كل ولاد المخيم». ولا ينتهي لفظ أبو خالد للمخربين عند هذه الجمل، بل يكمل ليثبت كيف أن الفلسطيني لا يريد سوى أن يعيش، وأن ما ينغص عليه عيشه ويتسبب في قتله بشكل أساسي، هي المقاومة والقتال، فترى والد الشهيد يبرئ الاحتلال من دم ابنه الفدائي ويرى بفكر المقاومة «غسيل دماغ»، في حين يرى في الاحتلال الإسرائيلي خلاصه من الإرهاب.
أما في الواقع، وعلى عكس ما يدّعي المسلسل، يمكن رصد أهمية الحاضنة الشعبية الفلسطينية ودورها في دعم أبنائها المقاتلين، وكانت رواية أهل جنين أنفسهم خير دليل على احتضان الأهالي للمقاتلين، فمثلاً كانت النساء في المخيم يرتدين غطاء الرأس، ويفتحن أبواب بيوتهنّ للمقاتلين، لتسهيل حركتهم أثناء التصدي للعدوان، وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي رسائل تركها بعض الأهالي في جنين للمقاتلين تفيد بأنه يمكنهم استخدام أي شيء يحتاجون إليه في البيوت المفتوحة لهم، حتى إن بعض العائلات تركت لهم المال إن احتاجوا إليه. وبعد المعركة، ظهر بعض أهالي المخيم في وسائل الإعلام خلال التغطية، وكان من أهم ما قالوه إن الدمار والخراب الذي طال شوارعهم لا يهمّ، طالما أن المقاتلين بخير، وأنهم على استعداد لتحمّل كل الدمار، على أن لا يمسّ أيّ من المقاتلين ضرر.
يهدف المسلسل إلى بث الفتنة والمراكمة على الخطاب الطائفي واستثماره لمستهلكي «نتفلكس» العرب، لغرض شيطنة المقاومة الفلسطينية، وتوجيه رسالة إلى حلفاء الصهاينة في الغرب أن خطر إيران يقترب وأن إسرائيل تقاتل الإرهاب نيابة عنهم. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن «ليور راز» مخرج المسلسل الذي يؤدي أيضاً دور البطل «دورون» اليهودي العراقي في الوحدة الخاصة، استطاع توظيف خلفيته العسكرية في جيش الاحتلال وخلفيته كيهودي شرقي في عكس خيال صهيوني فيه خليط من الرغبوية والواقعية في آن واحد، بغرض تفكيك الواقع الفلسطيني ومعه وحدة ساحات المقاومة وشيطنة المقاومين أنفسهم في المسلسل.
أخيراً، استطاع انتصار المقاومة في «بأس جنين» هدم تلك البروباغندا الصهيونية، إذ كانت التغطية الحقيقية للمعركة على الشاشات وعلى مواقع التواصل الاجتماعي النقيض الواقعي للخيال الصهيوني.