بدأت المقاطعة العربية للكيان الصهيوني منذ بدايات الصراع عام 1948، وترسّخت في خمسينيات القرن الماضي كاستراتيجية رئيسية، حيث كانت جامعة الدول العربية قد دعت إلى مقاطعة الاحتلال لخلق حالة من العزلة ضده ورفض إعطائه الشرعية أو إبداء أي قبول عربي لإقامة هذه «الدولة». جاء قرار الجامعة على شكل قانون موحّد يفرض حظر التعامل الاقتصادي، خاصة مع «إسرائيل»، ثم بدأت بعض الدول العربية تصدر بيانات وقوانين تخصّها تحظر التطبيع وتجرّمه. لم تكن تلك المرة الأولى التي يفرض فيها شكل الصراع المقاطعة، حيث حاولت بعض الجهات المحلية فرض حظر التعامل مع اليهود مع بداية ظهور المستوطنات في عهد الإنكليز خاصة، إلا أن ما فرض المقاطعة بعدها كاستراتيجية عربية هو شكل الصراع وطبيعة المواجهة، حيث تتحوّل المقاطعة من مجرد محاولة ضغط وحصار إلى استراتيجية ثورية تحررية، أي إن شكل المقاطعة ومعاييرها لا تُستمد من غايات أخلاقية فقط رفضاً لجرائم المحتل أو التمييز العنصري، بل هي موقفنا السياسي من وجوده، فتمرّدنا كفلسطينيين وعرب على الأمر الواقع الذي يحاول فرضه الاحتلال واجب وطني يرتبط بمصيرنا وحربنا الوجودية، فهو ليس مجرد واجب إنساني أو وجداني. ومن هنا نستطيع تعريف التطبيع كنتاج لطبيعة الصراع بأنه أي فعل يضفي أي نوع من الشرعية على الكيان المحتل، وهو ما يمكن استخلاصه من طبيعة الصراع وشكله ومعناه وتبعاته.فمنذ كامب ديفيد وحتى آخر اجتماع بين طرف عربي وآخر إسرائيلي من المحيط إلى الخليج، اعتدنا نموذج العربي المتصهين التقليدي المجاهر بتطبيعه وفي موقفه ضد القضية الفلسطينية، الذي يدّعي علناً أن إسرائيل ليست عدواً بل هي صديق وحليف يمكننا أن نتعايش معه، فقد كانت الخيانة ونهج التطبيع بمعناهما التقليدي أوضح في معرفة الاصطفاف السياسي وكان أسهل علينا معرفة الحليف والشريك بالصراع من العدو، خاصة عند الحديث عن الطبقة الحاكمة العربية. أمّا اليوم، فتخضع عملية التطبيع لمعايير ضبابية وطرق ملتوية، خاصة في طبقة المثقفين العرب، هؤلاء من تبنوا زوراً موقف الحق من فلسطين من باب تمسّكهم بخطاب الحريات الليبرالي، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن تلك المعايير وشكل المقاطعة الحالي مرتبطان بخطاب الضعف والانحدار السياسي الذي فُرض علينا بعد أوسلو تحديداً، ولأنه الخطاب السياسي المقبول دولياً. وتبرز هنا تناقضات أغلب المثقفين الذين يؤمنون بالتحرّر من الهيمنة، حيث يستخدم أغلبهم في الآونة الأخيرة ذلك الخطاب الذي لا يختلف عن خطاب سلطة الحكم الذاتي في رام الله التي وافقت على حدود الـ67 بالنيابة عنا.
مع صعود خطاب حل الدولتين وخطاب المجتمع الدولي على حساب خطاب الثورة الفلسطينية، تم العمل على استبدال المؤسسات الوطنية بمؤسسات تابعة تتبنّى ذلك الخطاب، وحتى محاصرة ما تبقّى من مؤسسات وطنية والتضييق عليها لفرض ذلك الخطاب، خاصة أنه مموّل من شبكات الاتحاد الأوروبي. كنتيجة لذلك، أفرز ذلك المسار خطاباً شبيهاً للبعض من المثقفين الذين يدّعون جذرية في محاربة وجود الكيان الصهيوني تارة، ويحملون الخطاب ذاته لمكاسبهم الشخصية تارة، لنصل إلى فكرة مفصلية وهي العلاقة الجدلية بين النظرية والممارسة الثورية في طبقات المثقفين، ففي حين يحمل هؤلاء نظريات تحرر ثورية لا نجدهم يمارسونها في مساحات العمل ولا تأخذ جذريتهم المفترضة حيز التنفيذ عندما تمر المبادئ بمنافعهم الذاتية، وهو ما نلمسه في موضوع التطبيع الثقافي أخيراً.
مع صعود خطاب حل الدولتين وخطاب المجتمع الدولي على حساب خطاب الثورة الفلسطينية، تم العمل على استبدال المؤسسات الوطنية بمؤسسات تابعة تتبنّى ذلك الخطاب


إنّ كل التناقضات التي جاءت نتيجة للاحتلال والصراعات الطبقية المركّبة والمتداخلة مع قضايا أخرى نعاني منها مباشرة بسبب الاحتلال وبسبب الهيمنة الثقافية العالمية بشكل عام، مكّنت طبقة معينة من المثقفين من الاستحواذ على الفضاء الثقافي فأعادت إنتاج مساحات ثقافية ليبرالية تحمل خطاباً ثورياً مفرغ المضمون، ويحمل خطابهم أسلوب التطرف في فرض قناعاتهم ومبادئهم يسمح لهم بتطبيع التطبيع ذاته، لأنهم ما إن جادلتهم في أي قضية حتى تنهال عليك كل التهم فتتحول القضية إلى قضية جماعة تسعى إلى حماية مكاسبها وامتيازاتها الطبقية بكل وضوح. لأن الضبابية في المعايير تظهر في كل مرة عندما يكون المثقف أمام خيار تحقيق مكسب ذاتي لنفسه أو حتى لدوائره الاجتماعية والثقافية، حينها يصبح مفهوم التطبيع الثقافي رمادياً يحمل التساهل في بعض الأمور على حساب الطبقات الأخرى التي تحاول التحرر من التبعية بكل أشكالها، بينما يبقى المثقف الليبرالي ومكاسبه الآنية تحت سطوة التبعية الثقافية التي تنتج أكاديميا ثورية مفرغة المعنى. فتتحول الممارسة الثورية في أقصاها إلى التلويح بعلم فلسطين أو الغناء لفلسطين بعد الخضوع للأمر الواقع الذي يسعى الاحتلال لفرضه، في مشهد أشبه بالاحتفالات الفولكلورية بثقافة وأزياء قبائل الهنود الحمر في أميركا وكندا ونيوزيلندا بعد أن حلّت عليهم الإبادة وأمسوا تحت السلطة الكاملة للمجتمع الاستيطاني الأبيض، فكيف لك كمثقف أن تحمل خطاب الحرية والتحرر وأنت تضيّق القيد على شعب بأكمله؟
لأشقائنا العرب ممن يؤمنون بفكرة أن الزيارة للسجين لا للسجان، فإنّ زيارتكم تزيد من حصار السجين، فما إن تدخل الحدود التي سيطر عليها السجان وكبّلنا داخلها حتى ترضى بالأمر الواقع الذي فرضه علينا. وحين تدخل الأراضي المحتلة وتمشي في شوارعها وخلال محاولات سيطرة وسيادة السجان، تصبح أنت في خندق السجان لا السجين. وإن كنت تخشى أن يموت السجين في سجنه فلنذكّرك بأن الشهادة على أرض فلسطين هي الضمان الوحيد لفكّ حصارنا وعزلتنا عن محيطنا العربي. سترحب بكم فلسطين المحررة، ولكن حتى ذلك اليوم، حاصروا السجان ولا تتصالحوا مع وجوده ولا تدخلوا الأراضي المحتلة بما يرضي المحتل ولا يرضينا.