في أروقة المخيمات لن تشتمّ رائحة الثقافة. لن تجد زوايا كبيرة لبيع الكتب. لن ترى إعلانات عن مسرحيات أو معارض أو أفلام. الخبز هنا أولى بالاهتمام. وبنادق الحماية والأمن من الوحوش الداخلية والخارجية. تخجل في المخيم أن تسأل المارّة عن آخر مشاركة ثقافية لهم. من توقفه يعتقد أنك ستسأله عن وضع الدواء أو المستشفى أو حتى القبور التي أصبحت شحيحة في المخيم. تتقوقع الثقافة هنا. ويلجأ القائمون عليها إلى تلبية احتياجات الناس اليومية قبل تلبية احتياجاتهم الثقافية. فنجد النوادي الثقافية تعمل على إنشاء المطابخ الرمضانية لتوزيع الأكل والثياب على الأهالي. ومحاولة جمع التبرعات لشراء إسعاف أو أدوية الأمراض المستعصية للمرضى. جميعها نشاطات خدماتية تجعل من المؤسسات الثقافية وجوهاً أخرى.
أمّا اللاجئ، فيعيش في الدوامة التي يعيشها المخيم. لا وقت للتفكير بالوعي والإبداع. بات اللاجئ، يومياً، إنساناً يلهث خلف لقمة العيش في بلد يمنعه من ممارسة كل المهن. قيود تمنع المبدع من إبداعه وتلجم أفقه الفكري، تجعله يفكر كيف يؤمّن قارورة غاز لمنزله أو دفع فاتورة اشتراك الكهرباء نهاية الشهر.
لا يخفى على أحد أهمية الثقافة لدى المجموعات البشرية، فكيف إذا كانت هذه الشعوب مهدّدة ثقافياً؟ ومعرّضة لمحو هويتها يوماً بعد يوم. الشعب الفلسطيني يملك قضية جوهرها الأصل ليس الأرض. هذه الأراضي يمكن أن تُحرر بقوة السلاح وبحروب ومعارك، لكن كيف يمكن أن نحرر العقول بعد احتلالها ومحو هويتها الأساس. المعركة اليوم مع الاحتلال هي معركة الوعي.

دار النمر: حضن الثقافة الفلسطينية
يؤكد السيد رامي النمر، مالك «دار النمر للفن والثقافة» في بيروت، أن «أخطر ما فعلته إسرائيل في فلسطين هو سرقة الشخصية الفلسطينية، واستعمار الشخصية وانتحالها». هذا الأمر من الأسباب التي دفعت النمر لإنشاء هذه الدار البيروتية التي تقدّم المشاريع الثقافية بوصفها تراكماً حضارياً. أيضاً جاء التأسيس في البداية للمحافظة على الهوية الفلسطينية وثقافتها واتصالها بالمحيط العربي. مسؤولية الوعي وصنعه لدى الشباب ليست رديفة للمقاومة على أهميتها، بل هي أهم في بعض الأحيان. فمن يحمل السلاح في وجه الاحتلال يجب أن يمتلك الفكرة التي تدفعه للمقاومة. والمسؤولية الكبرى هي لدى اللاجئين في دول الشتات، إذ لا يملك اللاجئ سوى فكرته وهويته ليدافع عنها.
«دار النمر» بيت الثقافة الفلسطينية في بيروت. وقرار إقامتها في بيروت يعود إلى رمزية هذه المدينة في وجدان الفلسطينيين. إضافة إلى حاجة الشخصيات الناجحة إلى إظهار ومشاركة هذا النجاح مع لبنان. ففضلاً عن الفضاء الذي كانت توفّره هذه المدينة لفكرة الاختلاف وتنوع الثقافات، هي مركز «غليان فكري» وملتقى للكثير من المفكّرين والمثقّفين باختلاف اتجاهاتهم السياسية والفكرية والعقائدية، إذ يكاد يجزم أنه لا يوجد مثقف عربي أو فلسطيني لم يزر هذه المدينة.
أتى النادي لسدّ العجز في المشهد الثقافي في وقت تلقّت فيه القضية الفلسطينية صفعات من اتفاقيات التسوية


لا ينفصل ما تقدّمه هذه الدار من نشاطات ثقافية عن السياسة، إذ إلى جانب المعارض التراثية والفوتوغرافية وعرض الأفلام تقدّم «الدار» مساحة للحوار والمناقشات الفكرية بين مختلف الاتجاهات. هذه المساحة هي بأهمية عرض القطع الأثرية التي تعرضها «دار النمر» التي يبلغ عمرها أكثر من 300 عام. وكما أن المثقف يجب أن يكون بالمستوى نفسه مع الشباب ليتمكن من إيصال الوعي، طبّقت «الدار» هذه الفكرة باعتبار أنه لا يمكن لأي مكان متعالٍ أن يؤثر في فكر الجمهور. فـ«الدار»، ببساطة، هي مكان وساحة للجميع، للذين لا يتمكنون من الذهاب إلى المتاحف العالمية.

مؤسسات صغيرة تملأ الفراغ
إلى جانب «دار النمر»، هنا مجموعة من النوادي والمؤسسات الثقافية الفلسطينية في المخيمات تملأ الفراغ الثقافي. ولأنها قليلة فهي متوهّجة ومعروفة وتجذب الشباب إليها. يبرز «النادي الثقافي الفلسطيني» في بيروت وطرابلس كإحدى هذه المؤسسات الشبابية، والذي تأسّس عام 1993 في بيروت. وأتى لسدّ العجز في المشهد الثقافي في وقت تلقّت فيه القضية الفلسطينية صفعات من اتفاقيات التسوية مع الاحتلال الإسرائيلي، وتراجعت فيه منظمة التحرير عن دعم المشاريع الثقافية، إذ كانت المنظّمة هي الجهة الرسمية والأكثر حضوراً في هذا المجال. يرجّح منسّق عمل النادي في بيروت، عمار يوزباشي، أسباب قلة المؤسسات الثقافية الفلسطينية واتجاه أغلبها إلى التراث البعيد عن السياسة، أن الطالب الفلسطيني لا يمارس دوره الثقافي في الجامعات في لبنان، إذ كان غير مسموح له التمثيل في أغلب الجامعات، وهذا ما جعل دوره محدوداً في بناء المشهد الثقافي السياسي.
ويجمع يوزباشي دائماً بين الثقافة والسياسة، إذ «لا يمكن تقديم ثقافة مع الشعب الفلسطيني مفرّغة من السياسة، فبذلك تصبح الثقافة من دون معنى، كيف لشعب يعاني الاحتلال أن تكون ثقافته عبارة عن لوحات وتراث فقط». التاريخ هو تاريخ شعب هجّر وقاوم. لذلك يقدّم «النادي الثقافي» في بعض نشاطاته الأفلام الملتزمة والاجتماعات مع المخرجين والمثقفين الذين يتناولون الوعي الفلسطيني السياسي. ويوفّر مساحة للشباب في المخيمات لممارسة اتجاهاتهم الثقافية بعيداً عن كونهم يساريين أو علمانيين أو إسلاميين. وعلى ذلك يجهد النادي الثقافي الفلسطيني، ومثله «نادي النقب» في مخيم برج البراجنة، في تدريس تاريخ وجغرافيا فلسطين للأجيال الصغيرة في المخيمات، من خلال منهج تمّ إعداده تداركاً للفراغ الذي خلقته «الأونروا» بعد أن أوقفت قبل أعوام هذا الشق المهم من التعليم في مدارسها.
غياب منظمة التحرير بعد عام 1982، خلق فراغاً كبيراً على مستويات عدة، منها الثقافي، فأصبحت المخيمات شبه فارغة من الدعم للمفكّرين في مشاريعهم، ولم يملأ هذا الفراغ بعد سنوات سوى بضع مؤسسات تعمل جاهدة على ترميم الوعي الفلسطيني في المخيمات وخارجها، وذلك انطلاقاً من كون المعركة الأولى مع هذا العدو هي معركة الوعي وحفظ الهوية.
على مرّ سني عملها، اكتسبت هذه المؤسسات ثقة كبيرة، إذ تتحضّر «دار النمر» لإطلاق مفاجأتها قريباً بعرض مجموعة كبيرة من الصور لإحدى القرى الفلسطينية. فأن تكون فلسطينياً يعني أن تكون مثقّفاً مهما فعلت. يعني أن تكون حافظاً لجغرافيا وتاريخ فلسطين. ويعني أن تحمل فكرتك أينما وجدت وكيفما وجدت. ويعني أيضاً أن تكون مستعداً سياسياً، إذ لا يمكن أن تكون فلسطينياً متحرّراً من حمل هذا الوعي، وإلا فـ«بلاك وبلا فلسطينيتك».