قبل شهرٍ ونَيِّف، وصلتني رسالة على هاتفي من صديقةٍ يهوديةٍ -معاديةٍ للصهيونية- ومعها رابطٌ لمقال. أتبعتِ الصديقةُ الرابطَ بتسجيلٍ صوتي تدعوني فيه لقراءة المقال المهم الذي حسب قولها «ينطوي على معلوماتٍ لا يعرفها إلا قلةٌ قليلةٌ من الناس». البارحة وصلني رابطٌ لمقالٍ آخر أحدث عهداً، ولكن هذه المرة من صديقٍ فلسطيني يلفت فيه انتباهي إلى تلك المعلومات.يتحدّث المقالان عن كتابٍ جديدٍ للمؤرخ العربي اليهودي آفي شلايم الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية منذُ أن هاجر طفلاً مع عائلته إلى إسرائيل. يؤكد شلايم في كتابه المعنون «ثلاثةُ عوالم: مذكرات عربي-يهودي» Three Worlds: Memoirs of an Arab-Jew على أن اليهود العراقيين كانوا يشعرون بأنهم عراقيون قبل كل شيء، وبأنهم كانوا عرضة لعدوان الحركة الصهيونية وكارهي اليهود في الوقت نفسه.
آفي شلايم

نعلم أكثر من ذلك
لم يأت آفي شلايم بجديد، فنحن الذين خبرنا ونخبر يومياً عنفَ الصهيونية على أجسادنا ونفسياتنا ونعلم جيداً أن أول ضحايا الحركة الصهيونية كانوا من اليهود أنفسهم. ولا أقول بـ«نحن» الفلسطينيين كافة أو العرب، بل أقول بـ«نحن» جميع من حكّ جلدة رأسه وتجشّم عناء التنقيب في نشأة وتاريخ الحركة الصهيونية بغرضِ القضاء على النظام الاستعماري الصهيوني في فلسطين أياً كان جنسه أو دينه.
نعلم تماماً أن يهود العراق كانوا ضحيةً لإرهابٍ قذرٍ اصطادت فيه الحركة الصهيونية، وشاركت في أعماله دون وازعٍ من ضمير، وأنها كانت حليفة النظام البائد الذي سهّل لها خازنه نوري السعيد الدخول إلى البلاد وتخريب نسيجها المجتمعي -الذي لم يخلُ من عَث الظلامية- وتوظيف أبواق الفتنة الدينية في العراق، والتي كان أمين الحسيني من مؤجّجيها. وهو النظام نفسه الذي كان جزءاً من مشروع «حلف بغداد» الاستعماري الفاشل.
ونعلم جيداً أن أول ضحايا الإرهاب الصهيوني كانوا اليهود أنفسهم، وأنه قبل أن تدور الدائرة على يهود العراق، كان الصهاينة متورّطين في التآمر الإرهابي على يهود أوروبا ليُضطروا لترك أوطانهم، ولتحويلهم إلى أداة لاستعمار وطن غيرهم. ونعلم كيف تواصل ثيودور هرتسل أبو المنظمة الصهيونية مع وزير داخلية روسيا القيصرية فياتشيسلاف فون بليهفه عارضاً خدماته بغرض الحؤول دون انخراط اليهود في النضال في صفوف النقابات والحركة الشيوعية، في الوقت نفسه الذي كان النظام القيصري يسوم اليهود سوء العذاب.
ونعلم أن الحركة الصهيونية مدّت يدها لعون النظام النازي اقتصادياً بشراء بضائع ألمانية بأموال اليهود الألمان من الطبقة الوسطى، على أن يترك النظام النازي هؤلاء يأتون إلى فلسطين. كما نعلم أن الحركة الصهيونية تركت فقراء اليهود يواجهون مصيرهم المحزن في المحتشدات النازية على أيدي الجلاوزة الهتلريين، في الوقت الذي كان فيه إمام مسجد باريس عبد القادر مسلي يعطي اليهود أوراقاً ثبوتية على أنهم مسلمون لحمايتهم من الجستابو، وأن كثيراً من مسلمي البلقان خبّأوا إخوتهم يهود البلقان وحموهم، وأن السفارة الإيرانية في برلين ساعدت الكثير من اليهود على الفرار من الملاحقة النازية.
نعلم جيداً أن أول ضحايا الإرهاب الصهيوني كانوا اليهود أنفسهم، وأنه قبل أن تدور الدائرة على يهود العراق، كان الصهاينة متورّطين في التآمر الإرهابي على يهود أوروبا


ونعلم علم اليقين أن ما تعانيه بلاد اللسان العربي من جهلٍ وجهالةٍ وكراهية على أساس الفكر والطائفة أمرٌ غير حتمي الدوام، وأن «المسألة اليهودية» داءٌ أوروبي بعثته الإمبريالية الأوروبية إلى بلادنا على ظهر الصهيونية. وندرك تماماً أن اليهود في بلادنا، رغم كل ما شهده تاريخها من أحداث عنيفة وأليمة، عاشوا مثل إخوتهم من المعتقدات الأخرى في سلام وأمان لم يعرفهما يهود أوروبا، وأن ما هَرَفَ به نتنياهو بأن أمين الحسيني أوحى لهتلر بالمحرقة هراءٌ لا يرتقي إلى مستوى الخطأ.
ونعلم أن العِيَّ الصهيوني الذي يذهب إلى إبراز أمين الحسيني على أنه كان زعيم الشعب الفلسطيني هسهسةٌ لا ترتقي إلى مستوى الهلاوس، وأن ما قام به أمين الحسيني من تحريض على يهود العراق كان متماشياً مع سياسة النظام المهترئ في العراق آنذاك، التي كانت ترمي إلى خلق معارك هامشية تشغل جماهير البلاد عن معركتها الحقيقية ضد حكامها اللصوص، وأن ذاك استمرارٌ لنهجه الذي يمثّله هو وحده، والذي ضيَّق به على الأحياء في فلسطين بأن صفّى قادة الحركة النقابية الناشئة، ميشيل متري وسامي طه، قبل أن يجعله ياسر عرفات يضيّق على الأموات بأن بنى له ضريحاً يحتل نصف مساحة مثوى شهداء شاتيلا.
ونعلم أيضاً أن دافيد بن غوريون، الزعيم الصهيوني الأيقوني، قال بكل ما في المستعمر من صفاقةٍ وإجرامٍ باردٍ يوم الأربعاء الموافق لـ 07/12/1938 أمام مؤتمر لحزب «ماباي» الصهيوني، بعد مرور شهرٍ على «ليلة تكسير الزجاج» ما يلي: «لو علمت أنه من الممكن إنقاذ كل الأطفال اليهود في ألمانيا من خلال نقلهم إلى إنكلترا، وأنه يمكن إنقاذ نصفهم فقط من خلال نقلهم إلى أرض إسرائيل، لكنت اخترت الأمر الثاني، إذ إنه لا تمثل أمامنا فقط مسألة عدد أولئك الأطفال، بل مسألة الاعتراف التاريخي بشعب إسرائيل».

وقبل ذلك كلّه
نحن أول من عرف أن الصهيونية شيءٌ وأن اليهودية شيءٌ آخر، وذلك منذ مطلع القرن العشرين. ونحن أيضاً أول من عرف أن إسرائيل نظام أبارتهايد استعماري. لم يُصغ لنا لمّا نطقنا بعد أن علمنا، ومن الأسباب الأساسية لذلك عدم اتخاذنا ما ينفع من أدوات كي يُصغى لنا كما ينبغي. من الجيد أن أصوات المؤرخين الجدد تتعالى في إسرائيل رغم محدودية أثرها حالياً، فهي تراكم الأساس المعرفي للخطاب اللازم تعميمه على اليهود أنفسهم. فأي عملية نضالية تتطلب تعميم خطاب يزيل الهالات الخرافية عن الواقع وعن التاريخ، وتلك مهمتنا نحن. فمن حرَفوا المسار بالمفاوضات، ومن يؤبّدون القمع والتخلف باسم المقاومة، هم من يتبنون الخطاب الخرافي في فلسطين. لسنا بذلك نستجدي عطفاً من أحد، بل نتوخّى إضاءة قبسٍ يدلنا على الطريق نحو الغاية المنشودة، فلطالما كانت الومضات التقدمية في تاريخنا المعاصر تتناسب عكسياً مع منسوب الطائفية ككل وكراهية اليهود بالأخص.