منذ فرض الحصار الصهيوني على قطاع غزّة، أصبح الإنسان الغزّي أحجية لمن لم يختلط به من قبل. يُسمع فقط عنه من التقارير الإخباريّة على التلفاز. وبعدما اشتهرت مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت هناك صورة عن هذا الإنسان يعكسها أصحاب هذه الصفحات ويصوّرونه بالشّكل الذي يريدون. وهذا الأمر جعل الناس حول العالم ينقسمون حول ماهيّة شكل هذا الإنسان الذي يعيش هنا، في هذه البقعة، المسماة قطاع غزّة.تارة تجد صورة البطل الذي لا يُقهر. وتارة تجد صورة هذا الشخص المظلوم الذي لا حول له ولا قوّة، وتارة أخرى تجده ذلك الشخص الذي يدافع عن حقه في الحياة، وتارة هو الإنسان المتشرّد... كثيرة هي الصور ولكنها في الحقيقة جميعها صور منقوصة، صور غير كاملة، تخدم فقط من يريد أن يصدّر الشكل الذي يريده ويخدم مصالحه. ويبقي الناس في قطاع غزّة أسرى هذه الصور.

عن إنسان غزّة بين الأسطورة والحقيقة
يُروى الكثير عن أسطرة الإنسان الغزّي. فهو جعل شمشون الجبار يدور كالثور بالرحى ليطحن القمح والحنطة، وهو الذي لم يستطع المغول هزيمته، مروراً بتمنيات إسحاق رابين بأن يبلع البحر غزّة حتّى يرتاح منها، وليس انتهاءً بتحرير غزّة عام 2005. الكثير من الأساطير التي نُسجت عن غزّة وناسها، نُسجت بطريقة تجعل الغزّيين مثقلين بهَمّ صورتهم أمام العالم، الأمر الذي في حقيقته هو تقييد أكبر لهم ولمشاعرهم الإنسانيّة.
أصبح الناس في غزّة يقبلون بالكثير من المفاهيم والمدخلات الخاطئة عنهم وعن حياتهم حتّى لا تهتز صورة «الأسطورة» التي رُسمت عنهم في مخيّلة العالم. أصبح «الألم» الذي يتعرّض له الناس بشكل يومي هنا، يمزج حياتهم بالمعاني والمفاهيم. أي يجسّد الدلالات ويعطيها شكلاً أمام الجميع، بالتالي المواجهات الجسديّة الواقعيّة وعالم المعنى والقيم المتشابكة. وبالتالي يصبح الإحساس تعبيراً عن مدى المعنى في هذا العالم الذي وجد نفسه فيه.
لكن في واقع الحال، الأمر يثقل كاهل الناس هنا. لا تساعد هذه الصورة على ممارسة الطبيعيّة الإنسانية التي يتمتّع بها أي إنسان في مكان آخر في هذا العالم. وبالتالي التصرفات العاديّة التي تصدر من الناس، تجعل الكثير يستهجن هذه التصرفات، مع أنّها عاديّة في عرفهم، وبالتالي يصبح هناك سوء فهم بين من ينتظرون الصورة التي رُسمت عن الغزّيين طيلة السنوات الماضية والتصرفات اليوميّة للغزّيين.

«المعاناة» كمبرّر بين السلطتين والغزّيين
تستخدم السلطة الحاكمة في قطاع غزّة معاناة الناس التي تُفرض عليهم من الاحتلال الصهيوني كمبرّر لفشلها في إدارة قطاع غزّة، وبالتالي تعطي صورة بأنّ هذا الفشل ما هو إلا انعكاس للسياسات الاحتلاليّة على القطاع، فيكون لديها مبرّر لقمع أي محاولة كانت لتحرّك الناس نحو همهم اليومي، الذي تتحمّل جزءاً من المسؤوليّة فيه.
أمّا سلطة رام الله، فتستخدم معاناة الناس كمبرر لمهاجمة أي مشروع كان ضد مشروعها «الأوسلوي» فتصدّر معاناة الغزّيين، كمثال حي على معارضتها التي تكون في نظرها بالضرورة معارضة فاشلة، ليس لها أي شرعيّة في نظر العالم. وبالتالي أي مشروع معارض مصيره الفشل.
أمّا أهل غزة، فيستخدمون المعاناة كمبرّر للوجود في هذا العالم ككل، فانفصل لديهم هَم الفلسطيني-الغزّي عن هم أي فلسطيني آخر، وبالتالي، أصبح الغزّي الذي يواجه الحصار بكل ثقله، من حرمانه من الحقوق وتحمّله ومواجهته للاعتداءات المتكررة بالقصف من الطيران الحربي ومن الاستهدافات المباشرة له، يشعر إلى حد ما بأنّه تميّز بمعاناته المفروضة عليه من الاحتلال نفسه الذي يفرض المعاناة على الكل الفلسطيني في أماكن وجوده كافة.

هل الغزّي «بطل مظلوم» حقاً؟
مصطلح «البطل المظلوم» في تعريفه الأبسط هو: الشخص الذي أخذ دور البطل من بين الجميع، ولم يحقّق له ما يكفي من القيمة الذاتيّة بين الناس لنفسه.
على الرغم من أنّ احتلال فلسطين واحد، إلا أنّه ظهرت هناك بعض المصطلحات الدخيلة علينا مثل «الخصوصيّة السياسية» للمكان الذي يوجد فيه الفلسطيني. هذه «الخصوصيّة» جعلت بعض الفلسطينيين يمارسون العنصريّة ضد بعضهم، بحجّة أنّ مكان وجودهم يحتّم عليهم أن «يصمدوا» أكثر، أو «يقاوموا» أكثر. أو أنّهم هم الحامون للوجود الفلسطيني...
كعادة استخدامات وألاعيب الاحتلال، فإنّ التفرقة مكسب له، فهو يلعب على هذا الوتر ليعزّز التفرقة بين الشعب الواحد، فلا نستطيع نكران أنّه نجح إلى حد ما في تثبيت هذا الأمر، وأنّه قد انطلى على بعض الفلسطينيين. وهذا ما يجعلنا نتساءل: هل الغزّي هو «بطل مظلوم» حقاً؟ في الحقيقة لا أرى ذلك، وإن كان هامش التناقضات الثانويّة يظهر بصورة أكبر عند الغزيين بسبب أنّ الجميع يظن أنّه ليس هناك احتكاك مباشر بين الغزّيين والتناقض الرئيسي، ألا وهو الاحتلال الصهيوني.
في النهاية، وعودة على ذي بدء، إنّ الظروف التي يمر بها الإنسان الغزّي ما هي إلا انعكاس للاحتلال ذاته في فلسطين كلها، وعلى الفلسطينيين كلهم داخل الأرض وخارجها أي اللاجئين، فحتى وإن تغيّر شكلها في نظر الآخرين. الفلسطيني الغزّي مثله مثل أي فلسطيني آخر في أي مكان آخر، وبالتالي علينا أن لا نثقل الغزّي بصورة أكبر منه، لأنّه في النهاية... الغزّي إنسان.