في 13 أيلول 1993، وفي حضرة رئيس الولايات المتحدة، بيل كلينتون، وفي منظرٍ يشمئز منه السمع والبصر والفؤاد، خطا ياسر عرفات وعلى وجهه ابتسامةٌ عريضةٌ، ويده ممدودةٌ نحو إسحق رابين الذي ظلّ ثابتاً قبل أن يمدّ أطراف أصابعه، فيما لم يفتر ثغره إلّا عمَّا يشبه الابتسامة البَرِمَة. كان «القائد العام لقوات الثورة الفلسطينية» سعيداً بخلاصه وخلاص الثلّة التي تحيط به، بينما المقاتل «الأشكنازي» السابق في صفوف «البالماخ»، وصاحب أوامر تكسير عظام المتظاهرين الفلسطينيين، ورئيس حكومة النظام الصهيوني الذي وصل إلى رئاسة الحكومة عبر صناديق الاقتراع - خلافاً لعرفات ومن حوله -، كان «يُسقِطُ واجباً»، أو ربّما كان يفكر في ما سيتعيّن عليه فعله لإقناع «الكنيست» والجمهور الصهيوني بخطواته، كي يمضي مشروع اليسار الصهيوني في تصفية القضية الفلسطينية قُدُماً. كان ذلك حفلَ التوقيع على «إعلان المبادئ بشأن ترتيبات الحكم الذاتي المؤقت» - الذي وضع كلٌ من محمود عباس وشمعون بيرس إمضاءه عليه -، أو المشهد العلني الأوّل في ملهاة اليسار الصهيوني واليمين الفلسطيني.
«امضِ يا ابن الكلب!»
بعد ثمانية أشهر من ذلك، أقيم في القاهرة حفل باذخ للتوقيع على ما تفاوضت عليه ثلّة عرفات مع ممثّلي النظام الصهيوني، وهو التدابير الأمنية على المعابر، وحركة التنقل بين غزة وأريحا، وخرائط لمساحة الأرض التي ستكون فيها لعرفات شرطة وسلطة. تفاجأ عرفات بأن رابين لم يفِ بوعده بإرفاق رسالة مفادها أن الخرائط ليست نهائية، وأنها موضوع مفاوضات، وعندما حاول استخدام حيله المعروفة، نهره حسني مبارك، ديكتاتور مصر العسكري الصارم، أمام رابين والحضور على الهواء مباشرةً قائلاً: «امضِ يا ابن الكلب!»، فمضى «القائد العام لقوات الثورة الفلسطينية»، قبل أن يتوجّه إلى قطاع غزة ليقابل جماهير شعبه المُضلّلَة المخدوعة، والتي كانت «تحسب أن تحت القبّة شيخاً» - كما يقول المثل الفلسطيني تعبيراً عن الظنّ قبيل خيبته -، ولم تكن تعلم أن قدوم أبي عمار كان لأنه قدَّم اعترافاً تامّاً بإسرائيل، و«حق إسرائيل في الوجود والأمن والسلام»، وأنه فرّط بحق العودة.

اليسار الفلسطيني: آخر أيام الفلفل المخروط
لم يتوقّف اليسار الفلسطيني، بشقَّيه الانتهازي - ممثّلاً في «الجبهة الديموقراطية»» صاحبة برنامج النقاط العشر، وأحزاب المنظمات غير الحكومية - وغير الانتهازي، عن التنديد بـ«اتفاق أوسلو» ومخاطره التي تضع حق العودة في مهبّ الريح، والتي تختصر فلسطين في ما هو أقلّ من كامل الضفة وغزة... إلخ. الفصيل الوحيد الذي قام بمبادرة ملموسة حينها للاحتجاج على الاتفاق، كان «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، التي نظّمت مسيرة محمولة على السيارات والحافلات وكلّ أنواع المركبات طولها 47 كيلومتراً، من بيت حانون شمال قطاع غزة وصولاً إلى رفح في جنوبه: زَمرٌ وأبواقٌ وجلبةٌ وضوضاءٌ وزحامٌ فحسب، هي ربما الحرارة «الغَزَّاوية» التي تعزوها الأساطير الشعبوية إلى الإكثار من أكل الفلفل المخروط، أي الفلفل الأحمر المهروس مع زيت الزيتون. لم تتفتّق القريحة النضالية لمن تبقّى من كوادر الجبهة خارج السجون عمّا هو أكثر من ذلك، عن برنامج مثمر مثلاً يضع الأمور في نصابها. على كلّ حال، لم يكن ذلك ممكناً، إذ أصبح أكثر أفراد الصفوف الأولى من الجبهة موظفين في «السلطة الوطنية الفلسطينية»، فسادَ الإحباط صفوف الأعضاء الذين راحوا يهجرون «الجبهة» أفواجاً، قبل أن تتحوّل «الشعبية» إلى يسار مؤسسات غير حكومية.

إياكم والمزاجية عندما يكون الابتذال ممكناً
أمام آلاف الفلسطينيين الذين غصَّت بهم ساحة الجندي المجهول في مدينة غزة، أحيا عرفات مهرجاناً بكثيرٍ من الشعارات الشعبوية، بعدما أمعن حراسه في العربدة وهم يبعدون الناس عن سيارته «المرسيدس» الفارهة، مهدّدين إياهم بالسلاح. قال عرفات حرفياً ما يلي: «الاتفاق اللي عملناه مش على مزاج البعض فيكم! ومش على مزاجي كمان! ولكن، ولكن، هو أحسن ما يمكن في ظل أسوء الظروف العربية والدولية!». منذ الـ1970، وعرفات يحاول الاتصال بالصهاينة، عبر ذراعه الأيمن محمود عباس وغيره. كانت الظروف الدولية أفضل، لكن الإدارة الأميركية والمنظومة الصهيونية لم تكونا راغبتَين، لإدراكهما أن الفلسطينيين في حركية قتالية. ومنعاً لجعل فلسطين بؤرة استقطابِ مستمرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فرضت إدارة جورج بوش الأب على حكومة اليمين الصهيوني برئاسة إسحق شامير الذهاب إلى مؤتمر مدريد في عام 1991 رغم أنفها، وألقت بثقلها لدعم مشروع اليسار الصهيوني بقيادة رابين الذي وصل إلى الحكم عام 1993.
تحدّث عرفات عن المزاج، ولا ندري على مزاج من مُنع إجراء انتخاباتٍ لـ«المجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية» منذ تأسيسها عام 1964. نعلم أن مزاج جمال عبد الناصر كان حاسماً في إعطاء حركة «فتح» نصيب الأسد في المنظمة، لكننا لا ندري على مزاج من لم تُطرح بنود «اتفاق إعلان المبادئ» - التي صيغت بشكلٍ لئيمٍ التفَّ حول تطبيق حق العودة وتنازل عن الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1948 - على الاستفتاء الشعبي ليقول الشعب كلمته، مثلما قال الصهاينة ذلك بمباركة «الكنيست». ولا ندري على مزاج مَن تمّ تجاهل آراء الأطقم الفنية الفلسطينية المكونة من مختصّين في كلّ المواضيع ذات الصلة، وخاصةً أن تلك الأطقم قاطبةً حذرت من ذلك النص، وأوصت بعدم قبوله، وأكدت أن الصياغة التي تقول بتسوية «على أساس» القرارات الدولية لا تعني تطبيقها بالكامل بل تطبيق ما تريده إسرائيل منها، وأن القول بترك قضية اللاجئين للحل النهائي يعني تنصلاً إسرائيلياً من الأمر كله. في الواقع، لو قرأ أيُّ مبرّرٍ لما فَعَلَه عرفات وزمرتهُ نصوصَ الاتفاقات وملاحقها، لأدرك أي نكبةٍ ارتُكبت مع سبق الإصرار والترصد. كما لا ندري بأيّ مزاجٍ كان أبو عمار عندما قال لطاقم شؤون المرأة: «اذهبن إلى المطبخ!»، وطردهن من الوفد المفاوض. ولسنا ندري بأيّ مزاج سيَّر عرفات سلطته التي كانت مَضرب المثل في الفساد والترهّل وأخذ الإتاوات من الناس.

الثورة بين النصر... وآخر الشهر
لم يضع عرفات أموال «منظمة التحرير» في جيبه قطّ، وتلك حقيقةٌ لا ينكرها إلّا مفترٍ. لكن المال كان في يده وحده؛ يشتري به ذمّة هذا وموقف ذاك، يستخدم به هذا الشخص ويستعمل ذلك الحزب أو الفصيل. بهذه العقلية التي امتزجت في شخصه خفيف الظلّ والجذاب، بنى عرفات حوله عصابةً من الطفيليين الذين تحولوا إلى برجوازيةٍ من مُحدثي النعمة. احتلت تلك البرجوازية، التي اغتنت من مال الشعب الفلسطيني ودم شهدائه، مكاتب «م.ت.ف» ودوائر صنع القرار فيها، ورفعت شعار «ثورة حتى آخر الشهر»، أي إنها تعمل من أجل الراتب وما معه من مصاريف ونثريات وعلاوات وبدلات، لا من أجل الشعب والعودة والحرية.
لقد اختار عرفات بنفسه بطانة السوء تلك، فهي ما تَلزَمه لتنفيذ ما يريد من دون رقيبٍ أو حسيب. وكثرٌ هم من رووا في غزة كيف كان عرفات يرمي حذاءه في وجه كثيرٍ من القيادات المركزية في حركة «فتح» وفي اللجنة التنفيذية لـ«منظمة التحرير»، مرفقاً إياه بأقذع السباب. لا يحتاج عرفات إلى ثوريين أنقياء ولا إلى وطنيين أوفياء ولا إلى مهنيين شرفاء، لن يحتملوا هذه المعاملة، ولن يسمحوا بالمقامرة بقضية شعبهم. وفي هذا السياق، ثمة علامات استفهامٍ خطيرةٍ حول تصفية كوادر «فتحاويةٍ» كانت رافضةً لمسار التسوية و«اتفاق أوسلو»، أبرزها أسعد الصفطاوي الذي اغتيل في سيارته في منطقة شمال مدينة غزة، أصبحت تُعرف منذ قيام السلطة الفلسطينية باسم: «الصفطاوي».
تقول المعزوفة «الفتحاوية» العرفاتية إنه لم يكن بالإمكان أفضل ممّا كان، وهذا منطقي إذا ما عرفنا أن موارد «م.ت.ف» المالية قد شَحَّت، وأن الثورة لم تعد ممكنةً حتى آخر الشهر، وإذا ما عرفنا أن «اتفاق أوسلو» كان رشوةً بالمليارات للبرجوازية الطفيلية الفلسطينية التي ارتفع منسوب رفاهيتها عندما توجهت إلى غزة حيث رفعت شعار «كلنا محمود عباس»، الذي بنى من العدم - في تحدٍ مدهشٍ لقوانين الفيزياء وربما الاقتصاد - «فيلّا» فارهة في حي الرمال الجنوبي في منطقةٍ كانت فارغةً، وربطها بشارعٍ إسفلتي يصل حتى مجمع «أنصار» الذي كان سجناً إسرائيلياً - قبل أن يتحوّل إلى مراكز تدريب لقوات أمن السلطة - يتاخم مقرّ إقامة عرفات.
ليست المشكلة في شخص عرفات، ولو أن منصبه وما فعله يُحَمّلانه مسؤوليةً متناسبة، بل في الطبقة التي يمثّلها


تُكرّر المعزوفة أن الظروف كانت مجافية، ولكن متى كانت الظروف مواتية؟ أخلال النكبة؟ أم قبلها؟ أم ربما بعدها؟ مَن المتحذلق الذي يحسب أن تحرير البلاد نزهةٌ قصيرةُ الأمد؟ أولسنا نقارع المشروع الاستعماري الإحلالي الصهيوني الرأسمالي الإمبريالي الذي تقف عليه حركةٌ منظمةٌ منذ أكثر من قرنٍ من الزمان، والذي يمتلك دعماً مالياً وعسكرياً وسياسياً غربياً لا حدود له، والذي ما فتئ يتزود بأحدث الأسلحة الفتاكة، ويمتلك قاعدةً علميةً وتقانيةً وصناعيةً وزراعيةً جبارة، ومنظومةً أمنيةً - عسكريةً تحوي أسلحة تقليديةً وبيولوجيةً وكيماويةً وليزريةً ونوويةً استراتيجيةً وتكتيكيةً تكفي لمسح فلسطين والعالم العربي؟ لو كانت بطانة عرفات مؤمنةً بالثورة حتى النصر، لما وافقته على وضع القضية الفلسطينية في كفّة تقابل كفّة خلاصها الشخصي. كانت الانتفاضة الشعبية الأولى مستعرةً، وإسرائيل تعاني جراء اهتزاز صورتها كضحيةٍ بسبب انتشار صور فظاعات جيشها ضد الأطفال والعزل. كان لا بدّ من الالتحام بالجماهير والبناء على ذلك سياسياً، لكن فاقد الشيء لا يعطيه.
تقول المعزوفة ذاتها إن نظام بن علي في تونس، وكثيراً من الأنظمة العربية، رفضت استقبال مكاتب «م.ت.ف» وقواعد قواتها، وذلك لغوٌ باطل، فقد كانت هناك - ولا تزال - دولٌ مستعدة لاستضافة «م.ت.ف» وقواتها، أهمها الجزائر وكوبا. لكن هذه الاستضافة لا تتعدّى الإقامة والطعام: لا نثريات ولا أبّهة، بل تضحية في ثورة شهرٍ ينتهي بالنصر فقط، وهو ما لا قِبَل لتلك الطفيليات به. تُختتم المعزوفة الممجوجة عينها بالقول: «تعالوا أنتم وحرروها»، «ماذا يمكنكم أن تفعلوا؟»، «ما أسهل الكلام من دون مسؤوليات». حسناً، وهل سمحت البرجوازية التي يقودها عرفات - وبعده عباس و«حماس» - بأن يأتي غيره ليحرّرها؟ أَوَسمحت لفكرٍ ورأيٍ سديدٍ بأن يؤخذ به؟ أَوَسمحت للكادحين الذين شكلوا ويشكلون وسيشكلون وقود الثورة وسراج النصر بأن يمسكوا بزمام المسؤولية؟ أَوَليس ذلك القول الفاسد اعترافاً ضمنياً بعقم تفكير الطغمة وعجزها عن اجتراح المآثر؟ أوَليست الديموقراطية حبل نجاتنا؟ إن انتظار شيء من الطغمة، كتحقيق «الوحدة الوطنية» أو «إنهاء الانقسام» مضيعةٌ للوقت. وإن استمرار البرجوازية في تحويل حركة التحرر الفلسطينية إلى كيانٍ وظيفيٍ لدى الاستعمار الصهيوني، ثمّ انقسامها واستمرار شقَّيها في أداء الدور نفسه بصورتين مختلفتين لقاء سلطتين طفيليتين، دليلُ مرضٍ داخليٍ علاجهُ حزبٌ ثوريٌ يمثل الشعب الكادح المطحون المعنيّ بالتحرير، ويكنس السلطتين ويناضل بأدواتٍ جديدةٍ واستراتيجيةٍ مسؤولة. وذلك حديثٌ آخر.

«تيتي تيتي رحتي زي ما جيتي»
هو مثلٌ شعبيٌ معروفٌ في بعض البلاد العربية، ومعناه يعادل العودة بخفَّي حنين رغم الطبل والزمر. كان ياسر عرفات يتَنَقَّل بلا كللٍ أو مللٍ بين عواصم المنطقة والعالم. وبين عامي 1995 و1999، أُجريت جولات مفاوضاتٍ عديدةٍ، ووُقِّع اتفاق «طابا» أو «أوسلو 2»، وشهدت القاعة الكبرى في «مركز رشاد الشوا للمؤتمرات» في مدينة غزة اجتماعاً لـ«المجلس الوطني» غير المنتخب للتصديق على ما التزم به عرفات من حذف كلّ المواد المتعلّقة بالتعبئة الوطنية والقومية ومناهضة الصهيونية والتعريف بها وبالدعوة إلى الكفاح المسلح، وذلك بحضور رئيس الولايات المتحدة، بيل كلينتون، الذي جاء ليتأكد بنفسه من تلك السابقة، إذ لم يشهد التاريخ قيام حركة تحرر بتصفية نفسها قبل التحرر.
كان عرفات يستعرض حرس الشرف بمعدّل مرتين على الأقل يومياً، مرةً عندما يغادر غزة نحو أي مكان، ومرةً عندما يعود، وفي فترات معينة كان الأمر يصل إلى أربع مرات، مرةً في مقر إقامته عند الخروج، وثانية عند الوصول إلى مطار غزة، وبالعكس. وفي طريق موكبه، كانت وزارة التربية والتعليم تُخرج تلاميذ المدارس القريبة على خطّ سير الموكب لتحية «القائد الرمز»، فيفرح التلاميذ لضياع حصتين مدرسيتين ويغلي المدرسون بلا فرح. كانت فرقة حرس الشرف تسبق عرفات على متن حافلةٍ تسير بسرعةٍ جنونيةٍ لتصل قبله لتعزف، وكان الناس يرون العساكر المنهكين، فمنهم من كان يشعر بالشفقة عليهم، ومنهم من كان يسمّيهم «فرقة التيتي تيتي»، وخاصةً أن جولات «القائد الرمز» لم تأت لا بدولةٍ ولا هم يحزنون. استعراضاتٌ كثيرةٌ لعلّها كانت لتعويض الشعور بـ«لا دولة الدولة». أمّا المطار فكان بلا سيادة، فقد كان الفلسطينيون المسافرون يستقلون حافلةً تأخذهم إلى مكانٍ قرب المدرج، حيث يراقبهم الإسرائيليون للتعرف عليهم قبل أن يعودوا إلى الطائرة وينتظروا وصول الأمتعة التي يتم تفتيشها عند الإسرائيليين. في النهاية، لَمْ تُجدِ جولات عرفات نفعاً، فكانت «تيتي تيتي». كيف لا وقد كان شرطُ تصديق «الكنيست» على «اتفاق أوسلو» تعهدَ رابين أمام النواب الصهاينة بأنه لن يعطي الفلسطينيين دولة، بل كياناً إدارياً بغرض التخلّص من الأماكن ذات الكثافة السكانية الفلسطينية؟ إن كان عرفات وعباس يدريان فتلك مصيبةٌ، وإن لم يكونا يدريان فالمصيبة أعظم.

لم ينتهِ الأمر بعد
ليست المشكلة في شخص عرفات، ولو أن منصبه وما فعله يُحَمّلانه مسؤوليةً متناسبة، بل في الطبقة التي يمثّلها، وهي نفسها التي خَلَفَهُ على رأسها محمود عباس، وشهدت صراعاً مع شرائح جديدةٍ تمثلها حركة «حماس» قبل أن تنقسم الطبقة على نفسها، جغرافياً على الأقل. فـ«حماس»، على الرغم من تشبّثها بسلاحها، انضمّت فعلياً بوثيقتها السياسية إلى رؤية «حل الدولتين» العرفاتية الميتة، وكأنها «تريد الذهاب إلى الحج والناس راجعة». الأنكى من ذلك، هو شكلُ «التنافر المعرفي» لدى قطاعاتٍ واسعةٍ من الشعب الفلسطيني ترفض الاعتراف بإسرائيل والتنازل عن حق العودة وتلعن «أوسلو» صباح مساء، لكنها تترحم على صانعها وتلتمس له الأعذار.
إن كانت تلك الطبقة قد باعت البلاد وتتعاون مع المحتلّ يومياً لقمع من يقاومه، فإن الظرف الموضوعي لا يسمح لنأمة الثورة أن تنطفئ. فالصهيونية لا تريد لمن تبقّى من الشعب الفلسطيني بقاءً في بلاده، ولذلك، تثور الجماهير مرةً تلو مرة، وتغلي حتى التبخر، لكن الثوران يحتاج إلى أن تعي الطبقة المعدمة نفسها، وتدرك أن مصلحتها في التحرير والعيش الكريم تتطلّب أن تمسك هي بالأمور. وعليه، فإن الثورة على البرجوازية الطفيلية الفلسطينية في كلّ أماكن تواجد الشعب الفلسطيني داخل البلاد وخارجها، أمر ضروري، كي نتجرّع شراب الحرية أخيراً.