بعد أقل من ثمانية أشهر على القرار التاريخي، الذي ألغت بموجبه رئيسة بلدية برشلونة، اتفاق التوأمة مع بلدية تل أبيب، قرر رئيس البلدية الجديد جاومي كويبوني - الذي تمكن من الحصول على ما يكفي من الأصوات في المجلس البلدي لتولي الرئاسة قبل ثلاثة أشهر فقط - إعادة العمل بذلك الاتفاق. هي بلا شك ضربة مضادة لم تكن مفاجئة، لكن السجال الذي يرد فيه الصهاينة، ضربة من بين ضربات يتلقونها، ليس كارثةً، خاصةً إذا ما عرفنا في أي سياقٍ جاء ذلك. كانت ضربة «مُقْفي»، أي ضربة من كان على وشك أن يدير قفاه ويغادر. فقد كان التحالف اليساري الحاكم في برشلونة، الذي تقوده السيدة آدا كولاو، يوشك على إنهاء ولايته الثانية، وكان لديه ما يشبه القناعة بأن ولاية ثالثةً ليست على الأبواب، وقد حصل. خسرت حركة «كومونس» Comuns الانتخابات وحلّت ثالثةً بـ 9 مقاعد في المجلس البلدي المكوّن من 41 مقعداً، بعد أن حصلت على 10 مقاعد في الانتخابات البلدية قبل أربعة أعوام. وحصل الحزب اليساري الجمهوري الكاتالوني على 5 مقاعد بعدما فقد مثلها، وهكذا لم يعد اليسار يشكّل سوى 14 مقعداً فقط. صحيحٌ أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي هو من يحكم الآن، لكنه ليس بالحزب اليساري، إذ إن الأدبيات الماركسية والملكية العامة لوسائل الإنتاج وتعزيز القطاع العام ليست من برنامجه ولا رؤيته.
لمعرفة أسباب انقلاب الآية على آدا كولاو، الشيوعية المنبت، قال مارك ألمودوفار، المحلل والصحافي والكاتب والمستعرب الكاتالوني: «حصلت حركة كومنس في ولايتها الأولى على دعم كبير من سكّان الأحياء الفقيرة والعمالية في مدينة برشلونة، كان الكادحون يعلّقون آمالاً كبيرة على الحركة ورئيستها آدا كولاو لحل مشكلاتهم، وأكبر تلك المشكلات مشكلة السكن، فالإيجارات والأسعار ترتفع باستمرار، غير أن كومونس لم تقدر على حل تلك المشكلات في ولايتها الأولى، التي تخللتها مشاريع حضرية وبيئية خضراء استفادت منها المدينة بشكل عام وأحياء الطبقة الوسطى بشكل خاص، فانخفض رصيد كولاو في الأحياء الفقيرة وارتفع في أحياء الطبقة الوسطى، ما ضمن لها تحالفاً مكّنها من الحكم لولاية ثانية. ومع عدم حلّها لمشكلات الطبقة الكادحة، فقدت كولاو جزءاً معتبراً من خزّانها الانتخابي، وفقدت معه رئاسة البلدية».
رغم أن القضية الفلسطينية حاضرةٌ في الوجدان اليساري في برشلونة - وفي كل العالم - لكنّ الشواغل الحيويّة والاقتصادية تحتل صدارة الأولويات، وقد سعت كولاو، علاوة على دعمها غير المشكوك فيه للقضية الفلسطينية، إلى حشد الأصوات الجذرية القاعدية في برشلونة، ولكن المحاولة لم تؤتِ أُكُلَها انتخابياً.

عنزةٌ ولو طارت. حوارٌ حتى لو كان بالرصاص والأبارتهايد
عندما استعملت كولاو صلاحيتها كرئيسة للبلدية، وقررت إنهاء العمل باتفاق التوأمة «برشلونة - تل أبيب - غزة»، اجتمع أمين الحزب الاشتراكي الديمقراطي في برشلونة، جاومي كويبوني، مع ممثلي المنظمات الصهيونية في يوم قرار كولاو نفسه، في حاضرة قطلونية دون أن يطلب أحدٌ ذلك منه، وتعهّد أمامهم بأنّ إلغاء قرار كومونس سيكون أول ما سيفعله.
ورغم أنّ قسماً لا بأس به من قواعد الاشتراكيين الديمقراطيين يُعدّ مؤيداً للقضية الفلسطينية، إلّا أنّ ذلك الحزب يتبنى رواية حل الدولتين التي تستغلّها العناصر المتصهينة - وهي ليست قليلة - في أوساطه القيادية أسوأ استغلال.
حاول ائتلاف «وقف التواطؤ مع إسرائيل» (Prou Complicitat amb Israel) العمل بالتعاون مع الأوساط المؤيدة للقضية الفلسطينية داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي مباشرة بعد تصريحات كويبوني. يقول لوران كوهن، الرئيس المشارك لجمعية اليهود والفلسطينيين في كاتالونيا، وهي من الكيانات الأساسية في ائتلاف «وقف التواطؤ مع إسرائيل»: «كان قرار كويبوني بمنزلة قصة موت معلن، مثلما قال غابرييل غارسيا ماركيز. كُتبت رسائل احتجاج من الجالية الفلسطينية، وتجمعات لأشخاص مهاجرين، ومن أعضاء في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، كما اجتمعنا مع كويبوني الذي قال إن التصريح كان متسرعاً نوعاً ما، ولكنه أضاف مؤكداً أنه لن يتراجع عنه في الحملة الانتخابية، قائلاً ما يمكن تأويله بأن أمر العلاقات مع تل أبيب ليس أولوية بالنسبة إلى الحزب إذا ما تولّى رئاسة البلدية».
رغم أن القضية الفلسطينية حاضرةٌ في الوجدان اليساري في برشلونة - وفي كل العالم - لكنّ الشواغل الحيويّة والاقتصادية تحتل صدارة الأولويات


ليت «اليسار» يبرّ بوعوده ويبادئ كاليمين
في أول أيلول/سبتمبر، أي في أول يوم عمل في ولايته، وفي وقت لا يزال الناس يعودون فيه إلى العمل، أوفى كويبوني بوعده للصهاينة. ومن جملة ما يكرره كويبوني بلا كلل أو ملل هو أن تل أبيب مدينة تختلف عن بقية إسرائيل، وأنها تتحرك من أجل الحفاظ على الديمقراطية، وهو ما يصفه لوران كوهن مديناً بأنه «قفز على الحقائق، وعلى ما تفعله إسرائيل، وعلى أن تل أبيب أُقيمت على أراضي عدّة قرى فلسطينية مطهرة عرقياً، وأن تل أبيب موجودة لأنها تخنق ما تبقى من يافا».
يتماشى موقف الحزب الاشتراكي الديمقراطي مع سياسة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الإسباني الذي يتشدق بـ «الواقعية السياسية»، التي وفقاً لها وصل إلى مساومة مع نظام المخزن المغربي وتناسى موقفه مع القضية الصحراوية، والتي وفقها لا يزال يتناغم مع مقطوعة «حلّ الدولتين ومدّ جسور الحوار بدل المقاطعة». إنها «الواقعية السياسية» نفسها التي وفقها لم يستجب ذلك الحزب لنداء الشيوعيين في الثمانينيات لإجراء استفتاء شعبي لإلغاء المْلكية، والتي وفقها كذلك لم يعمل بموجب الدستور على النهوض بالقطاع العام وضمان حقوق العمل والسكن المنصوص عليها. للأمر ارتباطاتٌ عضويةٌ برأس المال والشركات المتعددة الجنسيات، وفي حال برشلونة - التي لا تنفصل عن المشهد الإسباني والأوروبي والعالمي المحكوم بنمط إنتاج رأسمالي - يدعو كويبوني إلى تعزيز العلاقة مع تل أبيب، مستنداً إلى وجود شركات ناشئة Start Ups وشركات حاضنة، ومراكز تقانية للذكاء الاصطناعي، والسياحة ...إلخ.
في الواقع، كانت الحملة الإعلامية اليمينية المستمرة منذ أول يوم في ولاية كولاو ترمي ضد كل ما تحاول فعله، من مشاريع حضرية ومن مواقف سياسية مع القضية الفلسطينية ـ ذلك انعكاس التضافر الخطابي والمصالح الاقتصادية بين اليمين في إقليم قطلونية وصناديق الاستثمار الرأسمالية، يقول مارك ألمودوفار: «ثمة مشكلة ضخمة في العقارات، لكن المشكلة تتفاقم في برشلونة بسبب صناديق الاستثمار، ومن بينها صناديق إسرائيلية تأتي وتشتري الكثير جداً من العقارات، مستغلة أن المدينة وجهة سياحية، فترفع الأسعار، وتعمل على إزالة الضوابط القانونية. ليست مشكلة في برشلونة فقط، بل في مدريد وسرقسطة وكثير من المدن، إنها مشكلة في إسبانيا وغيرها. لقد حاولت بلدية برشلونة في عهد كولاو فعل شيء، لكن الأمر غير ممكن، إذ ثمة قيود إدارية وقانونية لا تمكّنها من حل مشكلات الأحياء الفقيرة التي صوتت لها».
هي مشكلة البناء الفوقي القانوني الإداري السياسي الرأسمالي، الذي يمنع تأميم ملكيات الشركات المفترسة التي تتسبب في الإفقار وفي ظاهرة خطيرة كالاستبدال السكاني Gentrification أي حلول الأغنياء مكان الفقراء، وبالتالي، فإن أي حركة تسعى إلى مواجهة ذلك ستصطدم برأس المال - والصهيونية من واجهاته - وستكون الحركة عرضة لهجوم مضاد ضد مشاريعها وضد سرديتها، والقضية الفلسطينية من قضايا الكادحين والمظلومين وسردياتهم.
في هذا السياق، جاء الهجوم المضاد من حلفاء الصهيونية. يُعدّ ذلك «طبيعياً» إذا ما عرفنا أن اليسار في إسبانيا شهد تصويتاً عقابياً في الانتخابات العامة بسبب غلاء المعيشة وتآكل المنظومة الصحية والاجتماعية للدولة في عهد التحالف الحكومي الأخير. لكن الأمل في عكس تلك الحركية أملٌ أمميّ إن صح التعبير، أما الشارع الحانق في قطلونية وغيرها، فلسان حاله ما وصفه لوران كوهن مدينا: «إننا مقتنعون بأن أهل برشلونة، والشعب القطلوني والأمة الإسبانية جمعاء، بما في ذلك مصوتو الحزب الاشتراكي الديمقراطي مؤيدون للشعب الفلسطيني ومتعاطفون معه». كان ما شهدته برشلونة هذا العام ضربةً جاءت في وقتها، ضربةٌ مفعولها أقوى من الضربة المضادة، إذ حفزت برشلونة مدن لياج البلجيكية وبيليم البرازيلية وأوسلو النرويجية على اتّخاذ خطوات متباينة لا تعجب الصهاينة.