من أهم أسباب استمرار النكبة استمرارنا في تقسيم العالم بشكل عمودي بدل تقسيمه بشكل أفقي. وهو تقسيمٌ جعلنا نسلّم مقاليدنا لمن يستغلنا ويقمعنا ويعنيه استمرار النكبة، تارة باسم «المشروع الوطني» وتارة باسم «المشروع الإسلامي»، أي البرجوازية المتمثّلة في طرفَي مشهد «الانقسام» وما يدور حولهما من فصائل. وأخطر ما في تبنينا لهذا المنظور هو انزلاقنا إلى ثنائية «عرب» و«يهود»، وهي ثنائية صهيونية نخدمهم بها من حيث لا ندري.ليس اليهود شعباً، وليست مصطلحات الاستشراق التي تعيد إنتاج مفردات المُكرّس اليهو-مسيحي حسب التصور المركزي الأوروبي إلا هذراً متهافتاً، كالقول مثلاً بوجود شعوب سامية، أو أن العنصرية التي أنتجتها الطبقات المتسيّدة في أوروبا في عصريْها الإقطاعي والرأسمالي ضد يهود أوروبا ليست «معاداةً للسامية»، بل معاداة لليهود أشيعت بين الكادحين لحرف بوصلة العداء عن الطبقة المُستَغِلَّة.
تُرجم التوسع الإمبريالي للرأسمالية استعماراً لبلادنا، وكانت الصهيونية بذرة يمينية خدمت التوسع الإمبريالي وتحالفت في منعطفات خطيرة مع النظام النازي في ألمانيا والنظام الفاشي في إيطاليا، ولم تهمّها إبادة الملايين من اليهود -من بين ملايين أخرى من البشر- بقدر ما همّها إرسال اليهود نحو فلسطين لإيجاد يد عاملة تحل محل الكادحين الفلسطينيين الذين أخرجتهم من ديارهم ظلماً وعدواناً وبسلاح أوروبي. يتلخّص ذلك في القول الإجرامي الصفيق لدافيد بن غوريون في السابع من كانون الأول/ديسمبر 1938 أمام مؤتمر لحزب «الماباي» الصهيوني جاء فيه: «لو علمت أنه من الممكن إنقاذ كل الأطفال اليهود في ألمانيا من خلال نقلهم إلى إنكلترا، وأنه يمكن إنقاذ نصفهم فقط من خلال نقلهم إلى أرض إسرائيل، لكنت اخترت الأمر الثاني، إذ إنه لا تمثل أمامنا فقط مسألة عدد أولئك الأطفال، بل مسألة الاعتراف التاريخي بشعب إسرائيل».

ليست مشكلتنا
يقول كثير من الفلسطينيين إننا لم نرتكب المحرقة ولم نسئ معاملة أحد، بل نحن ضحية، وإننا لسنا مجبرين على عرض حالتنا وتقديم خطاب للمُحتل نُقنِعه بحقنا. وذلك صحيح، لكنه لا يشكل إلا نصف الصورة فقط. إننا مشتّتون داخل الوطن وخارجه في سياق فُرض علينا فيه استعمار إحلالي صهيوني -هو رأس حربة الوحش الرأسمالي في العالم- اقتُلع بسببه كثير من اليهود من أوطانهم وجيء بكثير منهم إلى بلادنا رغم أنوفهم بعد أن تقطّعت بهم السبل، ولمّا وصلوا لم يلقوا منا إلا كل ترحاب، كيف لا ونحن شعب يظهر تنوعه على ملامحنا من الداكن إلى الفاتح. مشكلتنا أننا اقتُلعنا من أرضنا، وأننا نحارب أجيالاً ولدت على أرضنا ولا تعرف مكاناً آخر، وهي مستعدةٌ لقتالنا حتى إن وصل الأمر إلى السلاح النووي، ثم تتفاقم المشكلة لأن من يعيشون على أرضنا اليوم فاشيون في أكثرهم ويرون فينا جنازات مع وقف التنفيذ.
أما النصف الآخر من الصورة فهو التالي: إننا بالفعل نعرض حالتنا ونقدّم خطاباً للمحتل، وهو عرضُ حالةٍ ركيك، وخطابٌ يمثّل من ينهبنا ويقمعنا باسم المشروع الوطني والقرار الفلسطيني المستقل، متنازلاً عن حق العودة وحاصراً فلسطيننا في الضفة وغزة بل وقابلاً بالمستوطنات ومكرّساً لموروث التخلف، وخطابٌ يمثل من ينهبنا ويقمعنا باسم قدسية السلاح التي لم تحسّن حتى من شروط الاضطهاد، موافقاً ضمنياً على حدود 1967 ومكرّساً لأفكار رجعية، تعتمد تأويلات ظلامية، تلغي الآخر وتجعله إما ضالاً أو في أحسن الأحوال «ذمياً».

ماذا تريد أيها الفلسطيني؟
ماذا لو: بعد أن مزّق المنفيون بنيرانهم جيش الصهاينة كل مُمَزّق، وبعثروا كل من آزرهم شذرَ مذرَ، وزحفت الملايين براً وبحراً وجواً من كل فجٍّ وميل، جاءت لحظة الحقيقة؛ ماذا سنفعل في من لم يستطع الفرار لأنه لا يملك جواز سفرٍ أجنبياً؟ وماذا سنفعل فيمن ظل على أرضنا طالباً الأمان ونحن قوم معهود لنا بالشهامة وإغاثة الملهوف وإجارة الضعفة وإن كانوا أعداء؟
سيقول أي فلسطيني إما أن يعيشوا بيننا تحت علمنا وقوانيننا أو أن يرحلوا. حسناً. ولو تمكّن الفلسطينيون من إقامة دولتهم من البحر إلى النهر وعاد كل من هُجِّر، أسيقبل الفلسطينيون بدولةٍ ديمقراطيةٍ تساوي بين البشر بغضّ النظر عن معتقداتهم وجنسهم، يكون لكل فرد فيها عملٌ حسب مهاراته ويتقاضى أجره كاملاً حسب جهده؟ الجواب سيكون: «طبعاً» أو «إنها طوباوية». والجواب: إن كانت طوباوية فلماذا لا تتوقف عن التذمر من الأساس؟
وماذا سيقول الفلسطيني فيمن يرحبون بالتطبيع من النظام الاستعماري الإسرائيلي؟ (وهم بالمناسبة قرابة 10% من ساكنة البلدان الناطقة بالعربية -حسب بيانات «المؤشر العربي» لعام 2022- وأغلبيتهم الساحقة من المسلمين). سيقول إنهم قلة وإنه لا يلقي لهم بالاً، وهذا حسن. وماذا سيقول في بني جلدته من الخونة والمطبّعين والمنسّقين وتجار الدم؟ سيقول إن عليهم من الله ما يستحقون وإنهم لا يمثلون إلا أنفسهم، ولا بأس بذلك.
وما قول الفلسطيني في اليهود المعادين للصهيونية الذين يقفون ضد إسرائيل ويدعمون قضايانا ويتعرضون لهجمات المنظومة الصهيونية وحلفائها في كل مكان؟ وما قوله في اليهود المعادين للصهيونية -وهم حملة للجنسية الإسرائيلية- الذين تحدّثوا قبل عام في البرلمان الإسباني وساهموا في إجهاض مقترح بقانون يقوّض إنجازات حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني ويمنع دعوات المقاطعة ومعاقبة إسرائيل في إسبانيا؟ (بينما يعمل بعض الفلسطينيين الخونة مع الهاسباراه الصهيونية، وتنام فيها سفارات سلطة محمود عباس أو تضع العصي في الدواليب). وما قوله في الفلسطيني اليهودي الذي يرفض الاعتراف بإسرائيل؟ وفي نادر صدقة الذي حُكِم بالمؤبد لست مرات لرفضه الاعتراف بالمحكمة الإسرائيلية وبإسرائيل نفسها؟ وفي كريم الكاهن الذي كان يقضي آخر فترة سجنه في سجن النقب والذي كان يرفض القيام للعدد في السبوت، ويجادل السجّانين الإسرائيليين الذين كان الدم يكاد يفر من عيونهم حقداً وغضباً؟ سيقول إنهم أبطال، وهم كذلك.
إذا كانت الآلة الدعائية الصهيونية لا تجد غضاضة في مخاطبة الجماهير العربية رغم ما تقترفه إسرائيل من جرائم في وضح النهار، فلماذا لا نخاطب جمهور الشغّيلة في إسرائيل ونحن أهل الحق؟


عندما انطلقت مرحلة الكفاح المسلح في عام 1960 كانت «الدولة الواحدة» الهدفَ المُراد، ولكن انحراف البوصلة اقترن بإفلات القرار الفلسطيني من أيدي الشعب الفلسطيني، وبتكريس الطبقة الطفيلية -التي اغتنت من القضية الفلسطينية- لطغيانها وتحذلقها. من بين الأسباب التي أسقطت الفلسطيني في هاوية «أوسلو» وما تلاها من تطبيع وإسلاموية، هو منظوره العمودي للعالم.
لا يمكن لثورة أن تنجح من دون خطاب وممارسة، وكل التجارب الثورية الناجحة عملت على كسب معسكر الأصدقاء المتمثّل في الشغّيلة الكادحين. إن الثورة التي لا تقدّم خطاباً يحمل في طياته تصوراً للمستقبل يضمن فيه للكادح الذي تستغله الصهيونية أيضاً وتحشو رأسه بالعنصرية ليست بثورة. لطالما كانت الطبقة المستغلّة داخل الأراضي الخاضعة للحكم الإسرائيلي المباشر تتغذى على الخطاب الصهيوني في ظل غياب خطاب ثوري فلسطيني تقدّمي. ربّ قائل يقول إن الحزب الشيوعي والتشكيلات المختلفة لـ«عرب ويهود» داخل الخط الأخضر كانوا يعملون ولا يزالون، لكن ذلك لم يجد نفعاً. والرد هو أن تلك الأحزاب والتشكيلات كانت ولا تزال تلعب وفق القواعد التي ترسمها السياسية الإسرائيلية، لا وفق تصوّر مبني على قراءة الواقع نفسه والعمل على تغييره، من غير التقليل من شأن ما فعلته في مفاصل حاسمة بُعيد النكبة.
يحضرني ما قاله المؤرّخ إيلان بابيه في إحدى المقابلات رداً على سؤال مفاده: «كيف يتفاعل الإسرائيليون مع خطاب الدولة الواحدة؟» فكان ردّه بما معناه: «لا تسألني عما يقوله الإسرائيليون، بل أخبرني ما هو الخطاب الفلسطيني بشأن ذلك كي أنقله إلى الإسرائيليين!».

من يعمل يخطئ
شهد هذا الشهر مبادرة جيدة من طرف بعض الفلسطينيين، فقد كُتبت رسالة تدين تصريحات محمود عباس التي اتّسمت بإعادة إنتاج الخرافات العنصرية الأوروبية، وبعض مفردات الرواية النازية لتبرير المحرقة ضد اليهود -رغم أنها كانت ضدهم وضد غيرهم. جاءت الرسالة في وقتها لتسجيل موقف مهم: إننا كفلسطينيين نناضل ضد العنصرية ولا نقبل استدخالها في نضالنا ضد الصهيونية، وإننا نرفض أن يتحدث أمثاله باسمنا، ولا سيما أنهم يضمنون استمرار حكم الفصل العنصري الإسرائيلي بدعم غربي، وذلك موقف نابعٌ من أخلاقنا "نحن" ومن تطلعاتنا الثورية أيضاً.
لقد وقّعت شخصياً على تلك الرسالة ويسرّني أنني فعلت، وقد سجّلت لأصحاب المبادرة رفضي لبعض الأخطاء المنهجية والتاريخية الفاضحة التي تكمن في استخدام مفردات مثل «الشعب اليهودي» و«معاداة السامية» و«العلوم الأوروبية»، فاليهود أتباع دين فرضت عليهم السياقات التاريخية، التكدّس في منجمعات لها بعض الخصائص الثقافية-الدينية، وهم ليسوا شعباً، وإلا كان لدينا شعب مسلم وآخر سيخي وهلمّ جراً. أما «معاداة السامية» فقد جيء على ذكرها أعلاه، أما «العلوم الأوروبية» فخطأ، إذ إن العلم فهم منظّم للطبيعة ومختلف ظواهرها، وهو موضوعيٌّ ليس أوروبياً أو أفريقياً.
يجب أن ينضم المزيد من الفلسطينيين والفلسطينيات إلى توقيع تلك الرسالة، ولمَ لا تسجيل اعتراضاتهم المنهجية لتصحيحها، أو صياغة رسالة أخرى بشكل علمي سليم والتوقيع عليها... فلنكن إيجابيين، وأصحاب خطاب يرمي نحو المستقبل.

النكبة بالعبرية
هو أول عنوان كتاب وُضع باللغة العبرية، ووُجّه في الأصل إلى الإسرائيليين بغرض إثارة موضوع النكبة ومكانتها في الخطاب العام والوعي الجمعي الإسرائيلي. ألّفه إيتان برونشتاين أباريسيو وإليونور ميرزا برونشتاين، وهما مناضلان يهوديان ضد الصهيونية، يجول الكتاب في تلافيف الوعي الصهيوني وكيف فَهْمُ الصهاينة للواقع. كما يقدم معلومات موثّقة ومثيرة حول إمكانية كسب الإسرائيليين بخطاب ثوري يقدم الحق الفلسطيني كاملاً ويقدم معه الموقف الإنساني الثوري المتحضّر الذي يبيّن للإسرائيلي أن تنفيذ «العودة» لا يعني طرداً لليهود الذين ولدوا ويعيشون في فلسطين. إن ترجمة ونشر وقراءة هذا الكتاب ضرورة ثورية، فنحن كشعب لم نفهم الصهيونية جيداً بعد، ويشمل ذلك أهلنا الذين يعيشون تحت الحكم الإسرائيلي داخل الخط الأخضر، باستثناء كوكبات من العقول الثورية النَّيِّرة. وترجمتُ هذا الكتاب إلى العربية أخيراً، وصدر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية «مدار» في منتصف هذا العام.
إذا كانت الآلة الدعائية الصهيونية لا تجد غضاضة في مخاطبة الجماهير العربية رغم ما تقترفه إسرائيل من جرائم في وضح النهار، فلماذا لا نخاطب جمهور الشغّيلة في إسرائيل ونحن أهل الحق؟