في الأصل التاريخي، لا تعدو فكرة الترجمة كونها قفزاً فوق حاجز اللغة، أي ابتغاء التواصل والحوار بين المجموعات البشرية المختلفة النطق، وهو ما روّج فكرة ضرورة التلاقي مع الآخر صديقاً كان أم عدوّاً من خلال اللغة، فهمه أو دحض فهمه من قبل الآخر. وبما أنّ الصراع بين الأمم والقبائل في بعض أوجهه صراع ثقافة اعتقادية، تتجلّى وتنبت أساسياتها من حقول أخرى اقتصادية أو تنافسية أو ثأرية، تجلّى نهم الانتصار في إدراك ضرورية فهم الآخر- ليس بالضرورة تفهّمه- وكلما اتسع وتطوّر جهد الترجمة ازداد فعلاً وقراءةً فهم الآخر للآخَر. في خصوص الصراع في فلسطين وعلى فلسطين، ثمّة تشابك فريد في التاريخ، لم يحدث سابقاً قط، فاللغة التي يتحدّث بها أقوام الاحتلال الواردة من كل حدب وصوب، تعلّمها وأعاد خلقها الطامحون للسلب والاستيطان، بناءً على مشروع متخلّف أساطيري استوجب الغوص في لغة فلسطينية قديمة، ثم تعليمها للأوروبيين بعد نبش مفرداتها ومعانيها من أدراج التاريخ المغلقة؛ فاللغة العبريّة ما هي إلا لهجة محلية للغة فلسطينية قديمة اندثرت بفعل تطوّر الزمن وعجزها عن مواكبة النسق الحضاري في المنطقة. وكان آباء الصهيونية الأوائل، يبحثون عن روابط تعزّز أوهام الأساطير الوثنية المتخيّلة بخصوص فلسطين كأرض مقدّسة تدعم جلب العميان إلى مكان مضيء مقدّس، لتبدأ الهيمنة الاستعمارية التي تحقّق الهيمنة الأوروبية على الشرق الأوسط بعد فشل ذريع سابق، وفي الوقت ذاته تخلّص أوروبا من مجموعة دينية كارهة ومكروهة، كانت العبريّة أوّل، وربما آخر، لغة تختارها مجموعة ما لتكون لغتها الخاصة، وهي لا تمتّ بصلة إلا لفلسطين القديمة، رابطين بذلك وجود نصوص التوراة التي كُتبت بعض نُسخها بهذه اللغة الفلسطينية المندثرة لتعزيز ارتباط الوهم الجغرافي. وكانت العبريّة قد انقرضت ليس بقرار اجتماعي أو حيوي، إنما بفعل تخلّفها آنذاك وعجزها عن مواكبة تطوّر الحضارة آنذاك أيضاً.
من أوائل كتب الثورة الفلسطينية بعد مقالات تحت عناوين مثل «اعرف عدوك» تجرّأ غسان كنفاني من خلال فكرته القائلة بكشف طبيعة ونوايا وتركيبة العدو إلى جانب معادلة أخرى كان تشع في المنطقة، وهي في غالب الأمر حُمَّى الترجمة الأدبية العالمية من مختلف اللغات إلى العربية، التي وصلت أوجها في القرن العشرين من خلال ترجمة كثيفة للأدب، كالرواية والشعر والمسرح ووو، وهكذا تعرّف العرب إلى وليم شكسبير وفيودور دوستويفسكي وبودلير وآرثر رامبو وإليوت والعشرات من مبدعي الشعوب الأخرى.
هل يريد كيان الزوال الحتمي كي يطيل عمر بقائه المؤقّت أن نترجم كتبه؟ الإجابة هي نعم.
هل نريد ترجمة كتبه النظرية والسياسية والأدبية؟ الإجابة نعم أيضاً.
هل يريد كيان الزوال الحتمي كي يُطيل عمر بقائه المؤقّت أن نترجم كتبه؟ الإجابة هي نعم.


ثمّة فارق بين المأربين، الكيان يريد أن نترجم له لتحقيق اختراق ثقافي، الفلسطينيون والعرب عامةً وأحرار الأرض يبتغون الهدف ذاته لفهم نوايا وخطط وحال وطبيعة المجتمعات التي استوطنت واحتلّت فلسطين، وكيف استطاعت بناء كل هذه القوّة المؤسّساتية الغاشمة لتحقيق ما أرادت، وكيف جلبت كل هذه التجمّعات وأسّست كياناً سياسياً هدم أوّل كيان اجتماعي مدني حضاري في تاريخ الإنسانية، بنى المدن وأسّس اللغات المحلية التي أسّست في ما بعد للّغة العربية المكتنزة بها بكل هذا الاتساع والزخم.
يقع تقييم ماهية وأهداف الترجمة في اتجاهين أساسيين؛ الأوّل التلاقي مع الآخر والتأثّر والتأثير به كما حلّ بين العرب ومختلف الأوروبيين وغيرهما، والثاني في فهم واقع الآخر/ العدو، وما بينهما جد خطير، بينهما مساحة دسّ كبيرة متنوّعة المداخل. كمثل على ذلك ترجمة لحظة إنسانية مجردة؛ كطفل يعاني من شلل ولادة، الطفل يهودي وُلد في مستوطنة في الجليل، أمّه تركت البيت وفرّت مع صديقها، وأبوه طيّار حربي غاب في مهمّة لقصف المقاومة في لبنان. جوهر ذلك هو عرض متاعب الطفل المسكين، وسرد تغليب فعل الأب في المؤسسة العسكرية لحماية مجتمع كامل من «الإرهاب»، هذه خلاصة نصّ نثري عُرض في منتصف الثمانينيات للترجمة إلى العربية على أحد الأسرى الفلسطينيين مقابل إغراء من الاستخبارات، يصل إلى إمكانية تخفيض حكمه أو حتى إطلاق سراحه!
هنا يصل الفخ أوج ذكائه؛ ترجمة آلام القاتل مشفوعة بلمسة إنسانية نحو طفل، تُكسِب تعاطف العالم مع المحتل الإرهابي، وتبرير جرائمه التي كان أوّلها بناء كيانه مع تنحية ذكر التدمير والمذابح. أمّا نحن كفلسطينيين وعرب لم نصل واحة الذكاء هذه إلا عبر جهود فردية لمبدعين وعبر تأسيس مراكز بحث ودراسات لمؤسّسات في منظمة التحرير وخارجها خاضت في الأمر بوعي عالٍ وما زالت، لكن من دون دعم كافٍ لها، فتعرّفنا على يهودا عميناحي ثم إيلان بابيه، وعشرات آخرين، والأمر مستمر لكنه ما زال ضعيفاً. كما أسهم مترجمون فلسطينيون وعرب بجهود فردية في ترجمة مختلف الكتب التي تعرّي الاحتلال وتجسّد الاعترافات، من خلال اعترافات مشاركين في الجرائم الإرهابية للكيان.
في السنوات الأخيرة، ظهرت مؤسّسات عدّة تحت مسمّيات وعناوين إنسانية، لترويج بهاء العنصرية وتبرير إرهاب الصهيونية واختراق المجتمع والفكر العربي عبر «الإبراهيمية» وبثّ المعلومات التبريرية الخفيّة للمذابح والإرهاب القديم والقائم يومياً. واليوم، تدأب أنظمة التطبيع و«الإبراهيمية» بكل وقاحة على العمل لإيقاع العرب في فخّ الترجمة المدروسة من العبريّة وغيرها، بهدف تجميل قباحات القتل في ذهن الضحية ذاتها، تقدّمت بذلك على جميع الأنظمة المتهوّدة التطبيعية، فبرعت في ذلك مشيخات العرب الحاكمة التي تهيمن عليها أجهزة «الموساد» وتسيّرها وتثبّت كراسيها. هذه المراكز متعدّدة الأسماء، مدعومة مالياً بصورة كبيرة من الحكّام، وتسعى إلى إيقاع المترجم والدارس العربي في فخّ أدوات ومسارات البحوث والترجمة، وكذا مختلف الآداب والفنون. هذا أحد أسرار منح الإقامة الذهبية لمترجمين وباحثين وفنّانين بقرار مباشر من قبل رئيس «الموساد»، هكذا يُبنى كيان ثقافي استيطاني موازٍ داخل العقل العربي، وهو ما يمكن وصفه نقديّاً بـ«فخّ الترجمة».