ليس ثمّة طريقة مثلى لتصحيح التاريخ كرسم المستقبل، المستقبل الذي لم يستطع الفلسطينيون صوغ معالمه تماماً على الرغم من امتلاك أدوات الفعل وتضحيات النهوض من جهة، والقدرة على تقديم ما يجب لاستمرارية وهج دينامو النضال القاسي والمرير من حيث إيقاعه ونتائجه، ولسنوات طوال كنا قد فقدنا مفاتيح ذلك فدخلنا الباب بلا مفتاح مناسب!لم نفشل في شيء أبداً عبر قرن خلا سوى في رؤية درب الغد، كما أننا لم ننجح أيضاً سوى في ترسيخ أسطورة البقاء التلقائي، تلك المعجزة التي خَطَّها أولاً وبالدرجة القصوى الشعبُ بدمه ورسوخه المُضني، إن كان ذلك عبر ثورة ومقاومة أو مع فشل النخبة السياسية والثورية والمقاومة، بل وحتى نصل إلى ملامح تراجع فلسفة وتوجه النخبة الثقافية والسياسية والفكرية.
على الجانب الآخر المعادي الذي لا يمكن أن يوصف سوى بالنقيض/العدو القطعي، كانت لحظة التخطيط الذكي منذ ما قبل البداية عندما اخترق حاخامات اليهود العقل الأوروبي من خلال خلق البروتستانتية، واختراق بقية كتل ونهج العقل المسيحي في أوروبا، فتجلّى ذلك بدفع نابليون نحو الشرق تحت عنوان استعماري عام نحو المنطقة، مع التركيز على الاستيلاء على فلسطين لصالح مشترك ما بين القوى الاستعمارية الناهضة آنذاك، أولها بريطانيا وفرنسا وتوابع الاستغلال المالي المجاورة، حينها لم يكن هناك اطلاع لليهود على أهمية أرض فلسطين أو ذكر علني لميعادها الواهم، لكن هذا الوهم تم خلقه.
من الناحية الثانية، لم يخطر للفلسطينيين حينها وبعدها أيضاً لسنوات طوال بأنه يمكن للمهاجرين الأوروبيين اليهود الأوائل أن ينقضوا على كيان دولة تلقائية الوجود منذ آلاف السنين بنيت تلقائياً في جنوب سوريا وقلب الأرض العربية، وسميت تلقائياً ودون تدخل سياسي أرض فلسطين. وهو ما رسّخ بلا تدخل سياسي هذا البلد المميز بطبيعته وتنوع سكانه، فانخرطوا فيه مجتمعياً وسياسياً ضمن شروط خلق معينة وخاصة. فكان لخلق العقائد والديانات والاقتصاد والمعرفة وفلسفة الحياة انعكاساتها الجمالية والحياتية المستديمة واليومية، كما لم يكن في أي بلد آخر في العالم. هنا صُنعت البلاد من دون تدخل من ترتيبات حيوية مسبقة، وهنا كمنت المعجزة التي يمكن للبعض رؤيتها، ويمكن للآخر تناسيها بسهولة مفتعلة، سواء كان الرائي من أهلها أو محيطها أو في أي مكان من العالم.
كان للنكبة لون صراعي جديد حط على أرضها، فقد صرعت القوة الاستعمارية بنيان الجغرافيا الانسيابية التلقائية من خلال الدعم الكبير لتكريس وتسليح العصابات الإرهابية الصهيونية ومدها بكل ما ينبغي للسيطرة على البلاد، وعلى الجانب الآخر الأوروبي تم خلق النازية الهتلرية لتبرير النازية الصهيونية، فسارعت الوكالة اليهودية لعمل تحالف سري عضوي مع هتلر يفضي إلى تحقيق زخم يهودي دافع للتوجه نحو فلسطين واحتلالها، واستبدل التوافق الاستعماري والمالي بإقناع المهددين بأن ملاذهم من هول الهولوكوست المرسوم صهيونياً ونازياً هو الذهاب نحو وعد الرب الإرهابي الوثني يهوه. وهو ما يحقق أمرين أساسيين لا علاقة لهما بالدين سوى إعلامياً ومصلحياً، الأول رسم مستقبل مصالح الكتلة المالية الاقتصادية اليهودية التي تمد مخالبها في أوروبا مع غد ينسجم تماماً مع أخطبوط العقل العنصري الفاشي الأوروبي الغربي المجرم، ثم نهوض قوة القتل الأميركي الإمبريالي النزعة والاقتصاد. اتحد فرقاء القتل على هدف متجانس وربما واحد هو تدمير البنية الإنسانية التلقائية لفلسطين وسلبها بعد جمع النوايا والأهداف والمآلات في بوتقة واحدة.
لتحقيق ذلك كان لا بد من الحشد العالمي أن ينجز فعلته الشنيعة المستمرة، متحداً مع خصوصيات النوايا والأساليب والأهداف لكل داعم. من هنا تبدو صحة ونجاح عملية خلق النظام العربي المتواطئ تلقائياً باختلافات شكلية، كما يبدو تواطؤ عصبة الأمم ثم الأمم المتحدة لصالح القتلة الصهاينة، ودعم مؤسسة الإجرام التي شهدت تطوراً وهيمنة لا مثيل لها في التاريخ.
ما يجري الآن في غزة تجل للنهوض الفلسطيني والمنعكس حتمياً عربياً وإسلامياً بالضرورة، على الرغم من الألم التضحوي الكبير


أدرك قادة الكيان في السنوات الأخيرة حتمية الزوال عن فلسطين، لا أعني أبداً فلسطين المقزمة المساحة، كما نصت الاتفاقات الناتجة عن هزيمة الثورة في الجسم الجغرافي اللبناني بداية الثمانينات بتواطؤ محلي وعربي ودولي، فنجح بتحطيم وتفتيت البنية الثورية في بلاد العرب لتكريس الأنظمة الموازية للعدو، وقهر الشعوب التائقة نحو التطور والحرية والديمقراطية. كان نتاج ذلك هو «اتفاقات السلام» التي وعلى ظلمها وسوئها اشتق منها فقط بند سلام إسرائيل، والطريقة الدولية الذكية لإنهاء فلسطين وشعبها.
ظل المناضلون يقاتلون بكل تفان ممكن، ضعفاء الإمكانية أقوياء البنية الأساسية تلقائياً، حتى اندلعت الانتفاضات الشهيرة وما تبعها حتى اليوم، كما فشل الصهاينة وكيانهم بالمقابل بخلق أمة من تجمعات بشرية بعد أن سقط جناحا الوهم المتمثلان في العقيدة الدينية والتجمع الكياني البشري، هكذا نشأت فكرة الدمج في المنطقة كحل منطقي وهو التطبيع والإبراهيمية. تم جلب الأنظمة العميلة للمسرح بعد فشل كل التهويمات اللفظية الداعمة علناً والعاملة سراً لصالح عدو شعوبها وأمتها.
ما يجري الآن في غزة تجل للنهوض الفلسطيني، والمنعكس حتمياً عربياً وإسلامياً بالضرورة، على الرغم من الألم التضحوي الكبير المتمثل بكم الضحايا الهائل من المدنيين والبيوت والمشافي والمرافق. وإن ما يثير العجب هنا، هو أن الشعب ذاته ما زال في المقدمة، فهو لم يشتك ولم يهزم ولا يبدو أنه سيفعل. فالمشروع الوطني الفلسطيني راسخ مستقبلي لا نظير للتمسك بتلابيبه، بمعزل عن الساسة وحتى المناضلين المقاومين في سبيله. ما يجري في قطاع غزة الآن وما يحدث في الضفة والعاصمة القدس مشابه لدائرة بداية الصراع، لما خرجت مظاهرات يافا وحيفا والثورات التي بدأت رحلتها المستمرة المتقطعة منذ بدايات القرن العشرين، فالرؤيا قد تجلت.
تدخل السياسة مرة أخرى في الطرح المرحلي، خطأ يتم التأسيس له الآن، دولة على الأراضي المحتلة عام 1967 بعاصمة في جزء شرقي من العاصمة القدس، وهو ما بدأ التلميح له مؤخراً منذ انطلاق العملية الحالية، فماذا عن اللاجئين وعودتهم، ماذا عن محاسبة المجرم المحتل، وماذا عن كل أنواع الجرائم التي جرت؟
المشهد القادم هو الآتي، ومع كل هذا الدعم الرسمي العربي والدولي فقد تفكك الكيان، لم يعد هناك من اليهود على أرض فلسطين من يقتنع بالبقاء، حتى أولئك الذين يزجونهم في الـ «ميركافا»، يجري نقاشهم المصيري اليوم إن كانت «الدولة» ستبقى في عموم فلسطين، كم ستبقى وكيف؟
لهذا يتوجب على القيادة الفلسطينية الرسمية والفصائلية، ليس التعاطي مع المشروع الذي أدرك إرهابيو الاستعمار المالي والعسكري الغربي أنه قد يكون الحل الذي يدخل الكيان غرفة الانعاش لسنوات، إنه استباق للهزيمة الحتمية القادمة، بل علينا إعادة نبش الميثاق الوطني الأساس الذي نصته منظمة التحرير منذ ولادتها ككيان هوياتي وطني منطقي. باختصار، يجب الكف عن طرح حل الدولتين السخيف والذهاب إلى إعادة طرح الدولة الديمقراطية على أرض فلسطين الكاملة دونما نقصان، وتنفيذ حق عودة اللاجئين وتصحيح كل ما أمكن، هذا ما يستوجبه الأمر. أمّا الالتفات إلى ما يطرحه العالم المتواطئ من حلول فهو ذهاب إلى إطالة فترة الموات الإنجازي.
لا خيار لكم أيها الفلسطينيون إلا هذا، فلا تلتفتوا لكل الدعوات المنقوصة بعد أن تجاوزتم جهود العالم بأسره نحو إفنائكم، الاستراتيجية فقط ما ينقصنا، نحن لا ننقصها.

* كاتب فلسطيني