هآنذا أسير في شوارع دمشق... بؤس وقهر، وغضب عارم خفيّ ومعلن مما يجري، مردُّ ذلك ليس إلى المجازر الصهيونية، أو إلى أداء نخبة فحسب، فالغضب والحنق واضحان من الجميع العربي، من المواطن البسيط حتى الأستاذ الجامعي تجاه مواقف أنظمة العرب التطبيعية المخزية، التي يتجلّى جهدها في مساعدة الإرهاب الصهيوني بشكل وقح، وهي ذاتها التي دعمت الإرهاب هنا في سوريا، وبرّرت القتل والتدمير.
بائع الذرة على عربة خشبية، عربة من تلك التي نراها منذ طفولتنا، يتصاعد منها الدخان الأبيض. وأنا كالمعتاد أذكر طفولتي في مخيم اليرموك كلّما شاهدت عربة تبيع فولاً نابتاً أو عرانيس ذرة أو ترمساً محمولاً على وعاء ألمينيوم مسطّح.
كنت قد خرجت للتوّ من استديو بث تلفزيوني مباشر، وقد نسيت وشاح فلسطين على كتفي، وهبطت من سيارتي القديمة لأشمّ رائحة الذرة المنتشرة ببخارها، كأنها متضامنة مع حس الغضب الشعبي مما يجري في فلسطين... للبخار أيضاً معناه البليغ!
انتقيت عرنوس ذرة، وقد كنت جائعاً، لذا بدأت بالتهامه سريعاً، وسألت عن ثمنه؟ ردّ البائع ذو اللهجة الدمشقية الفاقعة بقوله: لست نذلاً لآخذ من رجل وضع علم فلسطين على رقبته! قلت يا رجل هذه مسألة أخرى، أرجوك، فأصرّ وحلف بالطلاق على زوجتيه الاثنتين بأنّه لن يأخذ ثمن الذرة، ثم رفع يديه نحو السماء داعياً الله أن يثبت أقدام شعب فدائيي فلسطين، وينصرهم ويسحق القتلة المجرمين الصهاينة والغرب والعملاء.
بدا المشهد طريفاً من زاوية ما، عميقاً من جوانبه كافة، لقد صمت لبرهة ثم طلب وشاح العلم الفلسطيني الرابض على كتفي، حتى ولو بمقابل منحي الحلة المليئة بالذرة في المقابل، قلت له أنا موافق!
طبعاً أرسلت له نظرة إعجاب وتحية وإشارة باليد، وبالأحرى قدّمت له علم فلسطين الزاهي. ابتعدت فناداني: أستاذ! التفت إليه، «لازم تعرف إنو القنبلة الذرية رموها بالتقسيط على إخوتنا هناك، فلا خوف من أخرى»، وخرجت من صدره عبارة: «الله على الظالم».
بالنسبة إلي، كانت تلك إشارات عميقة بليغة وراسخة كوتدٍ في وجدان العربي البسيط الذي لم تدنّسه السياسة ووسائل الإعلام العربي المتصهين، ولا قهر القتل الإمبريالي الغربي أو ميزات الإقامة الذهبية في الإمارات العربية المحتلة، ولا مهرجان الرقص العاهر الذي يشارك فيه مثقفون كبار كتاجر الجوائز أدونيس وغيره، مقابل حفنة من دولارات الإعلام الصهيوني في بلاد نجد والحجاز التي تحتلها عائلة سمّتها بريطانيا المجرمة منذ قرن خلا بالسعودية.
القوة التدميرية النووية عموماً تُحدث دماراً كبيراً في المناطق المستهدفة، تصنع المأساة والقتل الواسع، تصنع مشهد الموت العارم بتفاصيله التي تُسعد كل قاتل في هذا العالم المريض، لكنها تفشل في تغيير الفكرة أو مسح الثقافة والقناعات الوطنية والقومية والدينية، بل هي تشعل نار الإنسانية المتّقدة في نفوس الأشراف الراسخة منذ آلاف السنين. وها هي تفعل ذلك في الثقافة المجتمعية الأوروبية والعالمية أفضل مما تفعله في ثقافتنا ذاتها التي حوّلتها أنظمة كراسي العبيد والمال وشيوخ النفاق والتواري ومثقّفي الأجر المدفوع إلى حالة سكونية خطابية التفافية المعاني.
أضحت فلسطين هذه، لوحة عشق حرية وكرامة في بيت كل إنسان حقيقي في هذا العالم


كان لنهوض الفدائي مجدداً وقعه في الوجدان العالمي، بغضّ النظر عن اختلافاتنا الأيديولوجية مع أسسه المنهجية أو منطق قيادته السياسية، الفدائي الفلسطيني الذي نهض بقوة أخيراً كما نهض لمرات عدة خلال قرن خلا يحمل راية أحرار العالم، هو ممثل الإنسانية الشرعي، يفوق تمثيل كل الدول والمؤسسات المجتمعة في أروقة السياسة. إن فدائياً واحداً يمثّل تمثال حرّية، وتضحية ينتصب في قلب كل إنسان حر شريف مقهور يسعى إلى الكرامة الإنسانية مهما كانت جنسيته أو بلده أو لغته بعيدةً عن فلسطين جغرافياً، فقد أضحت فلسطين هذه، لوحة عشق حرية وكرامة في بيت كل إنسان حقيقي في هذا العالم.
المعنى العالمي الراقي الوحيد الموحّد يتمثل للإنسانية في علم فلسطين، وقد صار في كل شارع وحي، في كل مدرسة، جامعة، كنيسة أو جامع أو ساحة، وحتى في حواري البؤس التي صمّمتها أنظمة البؤس الإمبريالي المدروس والدعاية الصهيونية ذات مفردات التأليف الكاذبة، وها هو شاب يهودي فرنسي يقول: لطالما حكى لي جدي عن الهولوكوست، كان مبالغاً، يستقي معلوماته مما قيل أو كُتب، أنا الآن أرى هذا الهولوكوست على حقيقته، حياً على ركام غزة وحقائب الأطفال القتلى.

* كاتب فلسطيني