«العدو الصهيوني حوّل فلسطين إلى متحف عسكري كبير... يمكن أن نصف فلسطين بأنها المتحف العسكري الأكبر في العالم، متحف بمساحة 27 ألف كم مربع. وهذه ليست مبالغة، فلسطين التاريخية بما فيها الجولان السوري المحتل تمّت تغطيتها بمجموعة من المتاحف والمواقع التي تقوم بغرس الروح العسكرية في المستوطن الصهيوني بالإضافة إلى مسارات التنزه ومواقع تخليد ذكرى القتلى، والنُّصب التذكارية والشروحات عن المعارك. وهذه حالة نادرة أن يُحوّل بلد كامل إلى متحف عسكري» [خالد عودة الله]
يُقدّر عدد المتاحف في كيان العدو بأكثر من 200 متحف، 53 منها معترف بها كمتاحف قومية بموجب قانون خاص بها صادر عام 1983، أمّا الباقي فهو متاحف تابعة لجمعيات وشركات أو أفراد. تتبع المتاحف العسكرية لـ«وحدة تخليد الإرث» في وزارة الدفاع الصهيونية، ولكل ذراع مقاتل متحف خاص به، مثل متحف سلاح المدفعية والبحرية وسلاح الجو، وهي مختلفة عن متاحف وزارة الدفاع من حيث التمويل والإدارة. وهناك عدد كبير من المتاحف التابعة لجمعيات وروابط المقاتلين وأصدقاء الجنود ومتاحف البلديات والمجالس الإقليمية والجامعات. في محاضرة بعنوان «المتاحف العسكرية الصهيونية وبناء الجماعة الاستيطانيّة المحاربة» يقدّم الكاتب والباحث خالد عودة الله قراءة في دور المتاحف العسكرية الصهيونية بوصفها مكاناً تربوياً تلعب، إلى جانب المدرسة والجامعة ومسارات المشي، دوراً في تشكيل الروح العسكرية وزراعة الهوية الاستيطانية التي تستلزم اعتبار الحرب حالة إنسانية دائمة وأخلاقية وطبيعية يمكن التعايش معها بوصفها المكوّن الأساسي لوجود المستوطن اليهودي في فلسطين في علاقته مع الفلسطينيين والعرب. وتظهر المتاحف كأهم المواقع لصناعة الذاكرة الجماعية وتشكيل الروابط والانتماء القومي وقيم الوفاء والشجاعة والتضحية والآثار ورفقة السلاح. وفيها تكون «ذروة التذكّر من أجل هذه البلاد» والمتحف هو المكان الذي أُعلن منه قيام دولة المستوطنين في أيار 1948. أمّا فلسطينياً، فيُعتبر الحديث عن المتحف جديداً نسبياً، ولم يكن لدى الشعب المشتّت والمستعمَر ترف التفكير في هذه المؤسسة، خصوصاً أن المتحف يمثّل السيادة على الأرض والسرديّة.
منذ بداية معركة «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأوّل، وككل مجتمع ومؤسسات كيان العدو، أصابت المتاحف الصهيونية صدمة وجودية من هول الحدث، بدأ أول أشكالها بإعلان الإغلاق والحزن والصمت المطبق، بدأ الإغلاق منذ 7 تشرين الأول والعديد منها مغلق إلى الآن بعد مضي أكثر من شهر على بداية المعركة. وبالتحديد المتاحف العسكرية التي أعلنت الإغلاق مثل متحف الهاغاناه ومتحف البلماخ ومتحف الايتسيل في يافا، وهي متاحف تخلّد الأعمال الإرهابية من قتل وتهجير التي قامت بها هذه العصابات قبل تأسيس «الدولة». وفي الوقت ذاته هناك عدد من المتاحف التي أغلقت أبوابها لبضعة أيام وعادت إلى العمل. بعد الصمت، بدأ بعضها بنشر التعازي للجنود الذين قُتلوا أو أُسروا من قبل المقاومة الفلسطينية، وبالإمكان رؤية منشورات The Tel Aviv Museum of Art الباكية على مقتل أحد الجنود (نجل أحد العاملين في المتحف) - وبالمناسبة هذا المتحف الذي تأسّس عام 1932 أُعلن منه قيام دولة العدو في 14 أيار 1948.
على مستوى الخطاب، هناك محاولة لإظهار الحرب على أنها مع حركة «حماس» وليس مع الفلسطينيين أو العرب أو المسلمين، وهذا الخطاب معتمد من قبل كل المتاحف كما هو الخطاب الرسمي. كما هناك محاولة للربط ما بين «حماس» والنازية كما سنرى في أنشطة كل متاحف الهولوكوست في الأرض المحتلة والعالم. كما تم تقديم رسالة إلى المجلس الدولي للمتاحف International Council of Museums من أجل إدانة «حماس» و«الجهاد الإسلامي» واعتبارهما منظمتين إرهابيتين. والرسالة موقّعة من قبل 35 متحفاً صهيونياً، تقول إنّ «أنشطة حماس لا تقلّ عن القتل البشع والاغتصاب والتعذيب واعتقال المدنيين العُزّل. ونحن نطالب المجلس الدولي للمتاحف بإدانة هذه الأعمال الإرهابية بأقصى درجات الحماس». على موقعه وضع ANU-Museum، الكائن في تل أبيب، منشوراً عبارة عن فيديو يَظهر فيه موظفون من المتحف بسلاحهم وزيّهم العسكري يعلنون انضمامهم إلى القتال. وخصّص Yellin House الكافتيريا لعمل المعجّنات وإرسالها إلى الجنود في جبهة القتال، كما انعكست حالة الصدمة والبطولة المفقودة على أنشطة المتاحف الأخرى عبر الحديث عن القوة والشجاعة وبطولة «هرقليطس»، كما الحال في متحف الكتاب المقدّس، أو تنظيم محاضرات في تاريخ الحروب، كما هو في مركز بيغن. وهناك العديد من المتاحف التي قامت بتنظيم أنشطة لها علاقة بأطفال النازحين وأطفال الجنود والطواقم الطبية. هذا إلى جانب الإنكار التام من قبل بعض المواقع المتحفية أو المحميات الطبيعية والمراكز الثقافية التي لا تزال تتحدّث عن إمكانية استنشاق الهواء والتأمّل وسماع الموسيقى في «الأيام الشاقة».
تكثّف شكل الصدمة من «طوفان الأقصى» في المتاحف والمؤسسات الثقافية في كيان العدو في «أكاديمية بتسلئيل للفنون والتصميم»، وهي واحدة من أقدم المؤسسات الصهيونية التي تأسّست عام 1906 في القدس كمدرسة للفنون استمدّت اسمها من بتسلئيل بن أري، وهو فنان ذُكر في التوراة. حصلت الكلية على ترخيصها كأكاديمية تتبع للجنة التعليم العالي في عام 1975. وتحاول منذ سنوات تصوير نفسها على أنها المكان الذي يحتضن الأكاديميين المنفتحين الذين يستوعبون التوجهات الفنية للطلبة الفلسطينيين وإعطاءهم حقهم في المشاركة في النقاشات والإنتاجات. منذ «الطوفان» بدأت المؤسسة خطواتها بإعلان سلسلة من العقوبات التأديبية لأي شخص يقوم بنشر أي منشور مؤيّد للمقاومة أو حق الشعب الفلسطيني في الوجود، حتى إن العقوبات لم تقتصر على طلبتها الذين لا يزالون على مقاعد الدراسة، بل شملت الخرّيجين مع إمكانية سحب شهادات التخرّج. كما انعكس هذا التوجه على طبيعة الأنشطة والتمويل، عبر احتضان التوجه الفني اليميني العسكري في داخل المؤسسة عبر تنظيم نداء «أيها الجنود وجنود الاحتياط، فتح مركز الخياطة في بتسلئيل أبوابه لإصلاح الزي الرسمي والمعدات العسكرية». كما نظّم قسم تصميم الأزياء ورشة لإنتاج المستلزمات العسكرية مثل الحقائب التي تحمل القنابل والذخيرة.
لا بد أن يستلهم هذا المتحف خطاه من أجمل متحف في هذا العالم على الإطلاق «معلم مليتا السياحي»، الواقع على قمة جبل في إقليم التفاح في جنوب لبنان


قبل أقل من عامين، نشر أحد طلبة بيتسلئل الفلسطينيين منشوراً يحتفي بعملية الشهيد رعد خازم في يافا، وعلى أثر المنشور قامت حملة طالبيّة بالتحريض على الشاب وعبّر أفرادها عن «خوفهم» من وجوده بينهم، على أثرها خضع الشاب لتحقيق من قبل الشرطة الصهيونية وتم إبعاده عن بيتسلئل لمدة أسبوعين. وأُعقبت الحملة بتنظيم «حراك هاتشڤي» الصهيوني اليميني الذي يعرّف نفسه أنه «حراك مصمّمين ومعماريين وفنانين يقدّمون فنّاً عبرياً، يضم يساريين، يمنيين، علمانيين، متديّنين، وطلاباً متخرّجين. نحن حراك أتى ليطوّر الصهيونية وحبّ إسرائيل».
تشير إحدى الطالبات الفلسطينيات في بيتسلئيل إلى أن هذا التوجه المعرفي/ الفني الذي كان على الهامش قبل السابع من تشرين الأول أصبح الآن التوجه العام وفي صلب الممارسة الفنية الصهيونية، وهذا ما يعبّر عن نمط التفكير ما قبل الحدث، إذ إن الاحتضان الكاذب للفلسطينيين كان مرتكزاً على دوام هيمنة وقوة وسيطرة الصهيونية على الفلسطينيين والذي يبدو جلياً في قضية العمل حول «المدن المختلطة» عام 2015 التي رفضها الطلبة الفلسطينيون. وتقول: «إنّ مؤسّسي حراك هاتشفي لديهم توجهات فنية ترتكز على مقولات مرتبكة وفارغة، أحدهم يقوم فنه على تصوير الأجساد العارية كنوع من الهيمنة - خلال الطوفان قام الجنود الصهاينة بتعرية الأسرى الفلسطينيين وتصويرهم والتنكيل بهم- وآخر ترتكز أعماله على مقولات كليشيه مثل «أرض بلا شعب»، وفي مساق «مصطلحات سياسية» التقيت الأخير، كان المساق يركّز على الفلسفة الفرنسية، وكان يُطلب منّا أن نختار عنواناً وأن نبني عليه مشروعاً معمارياً. كان مشروعه المعماري «بناء مستوطنة على سطح القمر»، التصميم في غاية البشاعة ويشبه شكل المستوطنات الصهيونية، والمقولة مرتبكة وتؤكد عدمَ الثقة من مستقبل وجود «الوطن». أمّا عنّي فاخترت عنوان «الرعب» وكان المشروع يركز على البيوت المهدّدة بالهدم من قبل السلطات الصهيونية في القرى الفلسطينية البدوية غير المعترف بها، حيث إنه في إحدى القرى هناك 100 بيت مهدّدة بالهدم، قمت بتصوير أبواب الـ100 بيت كمحاكاة لهذا الرعب».
وبالطبع هذا الفارق الكبير هو انعكاس لأزمة «التمرّد» التي يمرّ فيها الفن الإسرائيلي كفن أُوجد في خدمة منظومة استعمارية. وحدود التمرد فيه ضئيلة جداً أو حتى معدومة، ففي الفترة التي كان فيها صعود لحركات التحرر وثورات 1968 وتحرر الجزائر واغتيال تشي غيفارا وموجات الاحتجاج المناصرة للشعب الفيتنامي وتنامي حركات فنية ثورية، كان الفنان الصهيوني يجد نفسه جزءاً من منظومة هيمنة استعمارية قامت باحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان، وهو كفنان يمثّل الطرف الآخر من العالم. وكل هذا الإرث الاحتجاجي الذي نما في الحركات الفنية غير حاضر في تطور الفن الصهيوني. وعلى النقيض يوظف الفن في الشره الاستيطاني وعمليات الإبادة والإحلال.

خاتمة
«هناك طريقان نادران يشكلان إمكانية تكاد تكون وحيدة في جعبة الأقليات في إسرائيل لكي تبقى على قيد الحياة سياسياً واقتصادياً، والطريقان كمفارقة تاريخية، هما: التنكّر كيهود أو استعمال الوسائل الفنية كتكتيك ضروري للبقاء» [رئيس بلدية القدس في تعليقه على الخيمة البدوية التي اقتُلعت من قرية الخان الأحمر ووُضعت في «بيت هانسن» في القدس كعمل فني بمناسبة عيد العرش اليهودي عام 2014].
من المبكر الحديث عن شكل المتحف الفلسطيني الذي سيتحدّث عن معركة «طوفان الأقصى». بداية من التخطيط ومسوّدات الخطط العسكرية والجهد الاستخباراتي إلى عمليات التدريب والرصد والتجريب، وصولاً إلى مرحلة التنفيذ. هناك كم هائل من التفاصيل وفيديوهات توثيق العمليات والقصص والشهداء والخطابات والشهادات والتضامن العالمي وخوذ الجنود وبطاقاتهم ووثائقهم والسلاح المهزوم والدبابات المقطّعة والجرافات المحروقة. هذا إلى جانب يوميات المعارك والبطولات الخَفية وقصص الصمود والألم والحب والضحكات. لنتخيّل معاً، هل سنبدأ من صفقة تحرير الأسرى؟ أم من خطاب القائد العام أبي خالد محمد الضيف الذي أعلن فيه بداية المعركة؟ بالتأكيد هناك واجهة مكوّنة من مجموعة من الشاشات تعرض خطابات أبي عبيدة. ومن المؤلم جداً تخيّل شكل الصرح الذي سيخلّد ذكرى المعمداني، أو مجزرة المربعات السكنية. هل التنقل بين قسم وآخر سيكون عبر الأنفاق؟ هناك عدد لا متناهٍ من الخيارات القيميّة لهذا المتحف الذي سيكون الأهم في تاريخ الشعب الفلسطيني.
وعلى كل حال لا بد أن يستلهم هذا المتحف خطاه من أجمل متحف في هذا العالم على الإطلاق «معلم مليتا السياحي»، الواقع على قمة جبل في إقليم التفاح في جنوب لبنان: مكان فيه من الإبداع والجمال والحب ما يجعل من قصة الصمود والمقاومة والتحرير والانتصار تعبيراً مكثّفاً عن «ما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر».

* باحث فلسطيني