(1)

حول ما يجري في غزة

كنت أفكر كيف نجح أخيراً صديقي في النوم الليلة الماضية.
صديقي مرهف الإحساس كباقي الأدباء؛ منذ بداية العدوان لا همّ له كل ليلة إلّا الاطمئنان بأن أولاده قد أكلوا قبل أن يناموا، على الأقل يجب ألّا يموتوا جوعى إذا وقع القصف!
***
الحرب هي أعظم رواية يمكن أن تُكتب، والآباء والأمّهات هم الأدباء الحقيقيّون!
***
ليس ثمة صورة أدبية أبلغ من صورة أمّ عُثر عليها تحت الردم وهي تحتضن طفلها!
***
كل أسطوانات الغرب «الديموقراطي» باتت مشروخة؛ فالسيمفونية الحزينة التي تعزفها غزّة لن تتوقّف بعد الآن، لقد أهالت التراب على مجد باخ وبيتهوفن، وستظلّ «تدقّ» على أبواب ضمائر العالم علّها تصحو!
***
()

كنت أفكر في ذلك كله، في صديقي، في أهل غزة جميعاً، أفكر كيف تدبّروا أمرهم الليلة الماضية، لم أنتبه إلى أنّ عليّ أن أشعل «غماز» السيارة قبل أن أنعطف إلى اليسار، دست فجأة على الفرامل وانعطفت. صاحب السيارة التي كانت تسير خلفي شتمني بأقذع الشتائم ومضى مسرعاً، وددت لو وقف لا لأقتصّ منه، بل لأقول له:
كل الإشارات توقّفت الآن يا أخي، وجميع الطرق موصدة، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، لقد سقطت كل الحلول والنظريات، وسقط معها الشرق والغرب، العرب والعجم، واليسار واليمين!
***
أنا غير مستعدّ للاعتذار لأحد، لا للسائق، ولا لـ (نيكوس كزانتازاكس) الذي أقول له - إن كان يسمعني في قبره - إنّ الغزيّين يكتبون الآن روايةً أعظم من كل الروائع الروائية التي كتبت، خذ مثلاً روايتك «الحرية أو الموت»، الأجدر أن يصبح اسمها «الجحيم أو فلسطين»!
***
بعد أن تعبت من متابعة الأخبار ونمت، الدبابة التي كنت أتركها في العادة تستريح خلف النافذة، باتت الليلة قبل الماضية في غرفتي، وفي آخر ليلة باتت في رأسي، هذا الصباح تطوّر الوضع، عندما خرجت لأطمئنّ عليها وجدتها تتجوّل في فناء البيت، لقد أتت على كل مزروعات الحديقة. أمّا قائدها «الذكي»، فقد أبقى على شجرة يستظلّ بها حين تطلع الشمس؛ فالجندي «شاعريٌّ أيضاً»، انظروا إليه: لقد استهلّ نهاره بكأس من الجعة كان جمجمةً لأحد أصغر الأطفال الذين فاز أخيراً باصطيادهم!
***
كنت أفكر كيف نجح أخيراً صديقي في النوم، ولكني عزفت لاحقاً عن التفكير في ذلك عندما اكتشف زميلي الصحافيّ الحقيقة، اكتشف حجم فداحة «الصورة الفائقة»؛ فبعد أن كان يذيع الخبر على مسامعنا، أصبح الآن هو الخبر!
***
لـ جان بودريار، وريجيس دويريه، وهايدر أن يعيدوا ترميم نظرياتهم في الإعلام، محمود درويش انتصر عليهم، فـ «الواقع» لم يمت، و«الافتراضي» لم يعد بديلاً عنه، «إنّ الواقع لم يعد واقعاً»!



(2)

حول ما يجري في الضفّة

عبرت قرب المقبرة التي سجي فيها الشهيد عدنان أبو حلمي.
كان ذلك في ساعة متأخرة من الليل، تحديداً في الليلة الأولى التي رقد فيها عدنان في قبره.
نم يا عدنان (امنيح)!
قالت شام للشهيد؛ كأنّ عدنان فعلاً حي، وكأنّ ابنتي فعلاً تخاطبه من قرب.
***
وصلنا أخيراً إلى البيت الذي خرجنا منه هرباً من الأخبار لـ (نرتاح)، ولكن قبل أن أنام على «مضض»، فاجأني يزيد:
دم عدنان، يا أبي، لا يزال على سطح المخازن التي استشهد فوقها، وأريد أن أقطف وروداً لأضعها فوق دمائه!
هل تعطّل يزيد اليوم عن المدرسة كي لا يتأخّر عن قطف الزهور؟! ثم أيّهما أهمّ، العلم أم الواجب؟ وأيّ جيل هذا الذي كنا نهزأ به؟
***
والدتي تقول:
هذا شيء بسيط مما سيحصل، سيأتي يوم على القدس يكون فيه الدم بمستوى «حزام الفرس»!
ربما، ولكن الحجارة والتراب يشربان الدم، إلّا الحقد والحزن، إنهما يستلقيان هناك، تحت مسام جلودنا، ويأبيان المفارقة، يا أمي!
***
أخيراً نمت، ولكنني فعلاً كنت أحسّ أنّ المجنزرة تقف هناك، خلف النافذة، تصوّب فوّهتها نحوي، تريد أن تلعب معي لعبة القط والفأر، أيّهما سيصحو أولاً، أنا أم البارود الذي يغلي في فوّهتها؟