الضفة والقدس... جوهر الصراع
تحت غبار الحروب تختفي فظائع كثيرة، وإلى حيث يشتد أوار هذه الحروب تتجه الأنظار. بينما تنصرف، في المقابل، عن الأماكن التي تكون فيها نيرانها أخفّ. ينطبق ذلك تماماً على الحرب التي يشنّها كيان الاحتلال على قطاع غزة. لذلك قد يظن المراقب خطأ أن الوضع في باقي الأراضي الفلسطينية المحتلة أقل سوءاً!
منذ حرب الإبادة التي بدأها جيش الكيان في قطاع غزة بذريعة عملية «طوفان الأقصى»، شنّ هذا الجيش، لكن هذه المرة مع مستوطنيه، حرباً أخرى، لا تقلّ خطورة على الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس التي تناسى العالم أنها جوهر الصراع، وهدف أطماع الحركة الصهيونية التي ترى أن إحكام سيطرتها على هذه المناطق وتفريغها من الوجود الفلسطيني أو تقليله إلى أدنى حد هو وحده الكفيل بالإجهاز المبرم ومنع قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. وبالنتيجة، يتحقق المخطط الصهيوني في تمدّد ولاية «دولة» الكيان على كل فلسطين التاريخية لتصبح «دولة خالصة للقومية اليهودية» حصراً.
منذ 7 أكتوبر الماضي قتل جيش الاحتلال ومستوطنوه أكثر من 300 فلسطيني، واعتقل نحو 4600 من أبناء الضفة الغربية والقدس. وترافق ذلك مع حملة تنكيل بالأسرى في السجون الإسرائيلية حيث استشهد في الفترة ذاتها 6 من الأسرى. وشنّ هذا الجيش، ضمن سياسة تصعيدية جديدة، حملة اقتحامات واسعة في القدس وضواحيها، وفي مدن وقرى وبلدات ومخيمات الضفة، واستخدم أعداداً كبيرة من قواته وآلياته وطائرات مروحية ومُسيّرة، دخلت على خط قصف الفلسطينيين وقتلهم، بينما المستوطنون يشنون حرباً عليهم وعلى أراضيهم، ليست أقل شراسة، وذلك بالتوازي مع استمرار بناء المزيد من المستوطنات والبؤر الاستيطانية وتوسيع القائم منها.
«جزّ العشب» و«كاسر الأمواج»
سجّل عام 2023 ارتفاعاً كبيراً في أعداد الشهداء في الضفة والقدس، مقارنة بالأعوام السابقة، وحتى قبل 7 أكتوبر. وتعود أسباب هذا الارتفاع الكبير إلى العمليات التي شنّها جيش الاحتلال في الضفة، ولا سيما في جنين وطولكرم ونابلس، حيث نفّذ عدة اغتيالات، ضمن عملية سمّاها «كاسر الأمواج»، لوقف أمواج المقاومين الذين نفّذوا العديد من العمليات في العام الماضي وهذا العام، ومنها داخل الأراضي المحتلة عام 1948. وعلّق أمنيون إسرائيليون على هذه العمليات بالآتي: «لا يوجد ملجأ في الضفة الغربية، نحن نعمل على جزّ العشب يومياً».
سياسة «جزّ العشب» هذه جزء من العقيدة الأمنية التي تأسّس عليها الكيان، وهي تعود إلى عهد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء إسرائيلي، الذي اعتبر أنّ دولته لن تستطيع حماية كل أنبوب مياه أو منع قتل كل إسرائيلي، لكنها تستطيع من خلال تدفيع الخصم ثمناً كبيراً أن تردعه عن التفكير بالعودة إلى هذا العمل.
وإذا أخذنا في الاعتبار حجم البطش والأعداد الكبيرة من الجنود والآليات التي بدأت تستخدمها في عمليات الاقتحام، وإشراكها الطائرات المروحية والمُسيّرة في عمليات القصف، وعمليات إعدام جرت لجرحى على مرأى العالم عبر شاشات التلفزة، يمكننا التأكد من أن هدف هذه الحملات الإسرائيلية يتجاوز غاية الردع الذي تقوم عليه سياسات أمنية إسرائيلية كـ«جزّ العشب» ليصل إلى هدف آخر باتت تسعى إلى تحقيقه الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ الكيان.
وهذا الهدف هو جعل الحياة بالنسبة إلى الفلسطينيين شبه مستحيلة، وبالتالي إجبارهم على الرحيل. هذا الهدف عبّر عنه بدقّة سموتريتش في دراسة نشرها في مجلة «هاشيولوش» تحت عنوان «خطة إسرائيل الحاسمة». الخطة التي أطلق عليها اسم «أمل واحد»، قال سموتريتش إن هدفها هو «عدم إدارة الصراع المستمر بدرجات متفاوتة من الشدة، بل الفوز به وإنهاؤه». هذا الفوز لا يكون، حسب خطة سموتريتش، إلا بوضع الفلسطينيين في الضفة والقدس، واللتين يصر كيان الاحتلال على تسميتهما بـ«يهودا والسامرة»، أمام 3 خيارات: إمّا الرحيل، أو البقاء عبيداً لدى الصهاينة، أو القتل لمن يعارض ذلك!
إنّ ما يحدث في قطاع غزة وفي الضفة والقدس، ليس هدفه اجتثاث المقاومة حسب ما يعلن أكثر من مسؤول إسرائيلي، إنما المقصود هو تهجير الفلسطينيين. لكن هيهات أن يحقّقوا ذلك، فالعشب الذي أرادوا جزّه استحال شجراً، والأمواج التي أرادوا كسرها أصبحت طوفاناً!