هذا النص خلاصات مستوحاة من حوار مع الصحافي عبادة طحاينة بتاريخ 7/1/2024، في جنين، وذلك يوم استشهاد الصحافيَّين حمزة الدحدوح ومصطفى ثريّا في قطاع غزة

«تقتضي الأطروحة الأساسية بأنّ الإعلام مرادف لزيادة الطاقة ولمقاومة القصور ولزيادة المعنى والتنظيم. بيد أنه يجدر هنا طرح الفرضية المعاكسة: إعلام = قصور. مثلاً: المعلومة أو المعرفة التي يمكن الحصول عليها حول نظام أو حدث ما تكون أصلاً شكل تحييد هذا النظام وقصوره (وهذا ما يجب إطلاقه على العلوم عامة، والعلوم الإنسانية والاجتماعية خصوصاً) فالمعلومة التي ينعكس فيها، أو من خلالها، حدث ما هي في الأصل شكل مخفّف عنه»
[جان بودريار، «المصطنَع والاصطناع»، ترجمة: جوزيف عبد الله، بيروت: المنظمة العربية للترجمة. 2008، ص 151]

أنا عبادة طحاينة من جنين، صحافي ومراسل ومصوّر ميداني، درست في جامعة بيرزيت بكالوريوس صحافة وإعلام وتخرجت منها عام 2021، ومنذ هذا التاريخ وأنا أقوم بتغطية أحداث مخيم جنين.
استشهدت الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة في مخيم جنين خلال تغطيتها لاقتحام جيش العدو للمخيم في صباح 11 أيار 2022، زاد إيماني في العمل الذي نقوم به. هذا الحدث الدامي والصادم كان بمثابة تعبير واضح عن عمق الحقيقة الموجودة في جنين، والتي يخشى العدو منها ويحاربها كما يحارب الحالة النضالية التي تقودها «كتيبة جنين». وشيرين لها حكاية مع جنين لم تبدأ باحتضانها الأخير للأرض، ففي الانتفاضة الثانية كانت شيرين موجودة، وكانت لها حكايات مع ناس المخيم وأزقته، وأهالي مخيم جنين في جنازتها كانوا يشيّعون واحدةً منهم، شهدوا لها على قصصها وحكاياتها وهي تبحث عن الشهداء عام 2002 بين الأنقاض. لذلك الصحافي هنا ليس مجرداً من إنسانيته، وفقط يقوم بعمل مهني. نحن أبناء هذا البلد، نؤدي رسالة الدماء التي تبذل يومياً، لذلك أقل تعبير عن الإعلام الفلسطيني، وصفه بالإعلام المقاوم، القائم على التضحية. والإرهاب الصهيوني ليس سوى خوف من انتقال المقاومة كممارسة اجتماعية (حتى في الإعلام) إلى باقي مناطق الضفة وفلسطين والعالم.
الذي يحصل في جنين مختلف تماماً عن مناطق الضفة الغربية، موضوعها مميز قليلاً، نحن نمارس حرفة مقاومة الاستعمار منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وبعد أكثر من عشرين عاماً من الانتفاضة الثانية جاء جميل العموري ورفاقه وأعادوا ثقافة الاشتباك مع العدو في مخيم جنين. هذه الحالة التي انتقلت تدريجياً وبالدم إلى كل مناطق الضفة، وترسخت في شمالها بكل إصرار وإخلاص.

«الطوفان»
بعد 7 أكتوبر المجيد، اختلف تعامل العدو مع جنين خصوصاً، ومع شمال الضفة عموماً، وأبرز هذه التحولات استخدام القصف الجوي على نطاق واسع، ما أدى إلى زيادة كبيرة في أعداد الشهداء والجرحى والدمار. مثلاً في 29 تشرين الثاني، اغتال الاحتلال القياديَّين: محمد زبيدي (النش) ورفيقه وسام حنون (أبو وطن) بقصفهما بـ 17 صاروخاً، كانا يتنقلان من بيت إلى بيت، إلى أن وصلا إلى آخر بيت على طرف مخيم جنين في حارة الدمج، وكانا يحاولان الانسحاب من المخيم، لكن محاولتهما باءت بالفشل، وللأسف تم اغتيالهما وسرقة جثمانيهما. واستكمل العدو جريمته بإعدام الطفلين: باسل أبو الوفا وآدم الغول أمام كاميرات «العالم الحر».
أمّا عن التحول الآخر، فكان باقتحامات الاحتلال الواسعة المتكررة، والتي يهدف من خلالها إلى إرهاق المقاومين والحاضنة الشعبية. والشيء المفاجئ، أن العدو حاول كثيراً في اجتياح تموز 2023 فرض الحصار التام على المخيم، وتحديداً لشل قدرة الصحافيين على الوصول إلى داخله، فطوال أيام الاقتحام كانت تغطيتنا من الخارج. أمّا الآن، فهناك قدرة على تغطية إعلامية أوسع، واستطعنا في الاجتياح الأخير الخروج من المستشفى الذي كنا محاصرين فيه، واقتربنا من المناطق التي توجد فيها قوات العدو. وهذا الأمر يعود ربما إلى أن العدو كان يعتقد بأن «الكتيبة» انتهت، والسبب الثاني أنه لم يعد يخاف على صورته، فقد تعرّت في غزة إلى حدّ الإفراط، وعلى العكس باتت سياسة تصوير الجنود كقتلة ومجرمين وآلات قتل هي سياستهم الإعلامية.
ومن الأمور التي تغيّرت بعد 7 أكتوبر، حجم ونوع التغطية الإعلامية لما يحدث في جنين. فمع العدوان على غزة، إضافة إلى المناطق الأخرى في باقي الضفة ولبنان والعراق واليمن وإيران وكل الأحداث العالمية، أصبح من الصعب تحقيق التغطية الإعلامية التي كان يحظى بها المخيّم قبل «الطوفان»، لكن هذا لا يلغي الوجود الدائم للوكالات الإعلامية المحلية والعالمية، مثل «الأناضول» و«رويترز»، وفضائيات مثل «فلسطين» و«الفجر» و«فلسطين اليوم» و«الغد» و«رؤيا» و«الجزيرة» و«الميادين» و«العالم» و«المسيرة» اليمنية... وبالطبع الإعلام الفلسطيني والإعلاميون الشباب الذين يعتمدون على منصاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي دائمو الحضور. لكن الذي اختلف في شكل التغطية ومضمونها، أنه بات من الصعب في ظل كل الأحداث الحالية إعطاء كل قصة شهيد أو جريح أو أسير حقها. ففي الأوقات السابقة، كنّا نحاول أن نقدّم لأهالي الشهداء كل طاقاتنا، ليس فقط في تغطية التشييع، وإنما في إنتاج القصص الصحافية والمقابلات والزيارات المتكررة، وخلق علاقات اجتماعية وصداقات معهم. لكن هذا الآن ازداد صعوبة، حتى إننا نخجل من عائلات الشهداء الذين باتوا هم يسألون عنّا. إضافة إلى ذلك، حجم المحاربة للمحتوى الفلسطيني على وسائل التواصل الاجتماعي صعّب المهمة من حيث انشغالنا في التقاط صور أو صياغة لغة لا تؤدي إلى إلغاء منشوراتنا وإغلاق حساباتنا. فأنا مثلاً أغلقَت إدارة «إنستغرام» حسابي الذي عملت عليه لسنوات، بسبب تغطيتي لكل ما تقوم به «كتيبة جنين» من مهرجانات وعروض وفعاليات مع الأطفال وإلقاء بيانات وتوزيع مساعدات.

وهم الخلاص
في كل مرة يحدث فيها اقتحام للمخيم، تنسحب قوات العدو بعد تنفيذ عمليات تدمير ومجازر بصورة المنتصر التي استطاعت تدمير قدرات «كتيبة جنين». وكان الاقتحام الكبير في منتصف شهر تشرين الثاني الماضي أفضل مثال على هذه العقلية. اجتاحوا المخيم لأكثر من ستين ساعة، وقاموا بعمليات تنكيل واسعة أسفرت عن 12 شهيداً وعشرات الجرحى والمعتقلين، غير الدمار الواسع في بيوت وطرق المخيم. وكان هذا الاقتحام ضمن استراتيجية عدوانية يتم تنفيذها لقتل حالة المقاومة في شمال الضفة، وهي قائمة على اغتيال أكبر عدد من المقاومين، وتحقيق أكبر عمليات تدمير للحاضنة الاجتماعية. لكن جاءت رسالة «الكتيبة» في الأيام الأولى من العام الحالي بطريقتين: الأولى، كانت رسالة إعلامية تمثّلت في الإعلان عن تأسيس الوحدة الخاصة في «الكتيبة»، هذه الرسالة استنفرت إعلام العدو وجيشه لتنفيذ عملية اقتحام أخرى حققت من خلالها الكتيبة الرسالة الثانية، وهي تطور القدرات العسكرية عبر تدمير جيب عسكري، وتثبيت حتمية استمرار المقاومة.
المشهد كالتالي: 17 آلية أو أقل اقتحمت جنين وقامت بجولة استعراضية طويلة عريضة، وصولاً إلى شارع نابلس القريب من الجابريات، وهي أعلى منطقة في جنين ومخيمها، وكاشفة لكل المنطقة، ونسبة كبيرة من سكان الجابريات هم من أهل المخيم. وفي حزيران الماضي، عندما تم تدمير ناقلة الجند «النمر» كنت في هذه المنطقة.
في الساعات الأولى من فجر 7 كانون الثاني الجاري، تقدّمت القوة المقتحمة في هذه المنطقة المفخخة بمجموعة من العبوات الناسفة، ولكي تحقق «الكتيبة» رسالتها على أكمل وجه، انتظرت أصغر جيب عسكري من القوة المقتحمة أن يقف على ظهر العبوات، وبدل عبوة الـ 40 كيلوغراماً التي فجرت ناقلة «النمر»، وضعوا أكثر من عبوة من نفس النوعية، ففجرت «الكتيبة» العبوات في هذا الجيب، وشاهدوه يحلّق في السماء، وينفجر سقفه وأبوابه، ويسقط منقلباً على جنبه، ليتحول كل ما فيه إلى أشياء متناثرة. اعترف العدو بمقتل مجنّدة في هذا التفجير، وكنوع من الثأر قام بقصف مجموعة من الشبان، ما أدى إلى استشهاد 6 منهم، بينهم 4 أشقاء، وهم ليسوا من مخيم جنين.

خاتمة
خلال دراستي في جامعة بيرزيت، كانت تظهر مهنة الصحافة في المساقات الأكاديمية، مهنة لها معايير وتقنيات عالمية، وصحيح أن التعليم الأكاديمي يقدّم معرفة نظرية وتقنية مهمة، لكن ما نراه في الميدان يومياً مختلف تماماً. مثلاً أن تكون صحافياً تحت الاحتلال، تقوم بتغطية يومية في المخيم، يعني أن تكون منغمساً مع الناس وتبادلهم العلاقات الاجتماعية ومشاعر الحب والفرح والخوف عليهم، وهذا يفرض أخلاقيات صارمة يجب اتباعها. وصحيح أن العديد من المطاردين يقررون التجول بسلاحهم دون قناع على وجوههم، لكن هذا لا يلغي أنه لا يمكنك التقاط أو نشر أي صورة أو معلومة من دون التأكد من عدم تعريض أيّ شخص للخطر. أمّا عدم تقيّد العدو بأيّ معيار أخلاقي متعلق باحترام الصحافيين، لا ببطاقة صحافة ولا بخوذة أو درع، فهو كونه لا يرى الصحافي إلا ضمن الأيديولوجيا العنصرية القائمة على ضرورة قتلك كعربي فلسطيني. أمّا أهم قواعد هذه المهنة، فهي ليست وظيفة لها ساعات عمل محدّدة ودخل ثابت، إنما مسؤولية ومهمة لإيصال رسالة قد تدفع ثمنها من مالك وصحتك ودمك.