غاب الملصق السياسي الفلسطيني عن مواكبة معركة «طوفان الأقصى»، وهو الذي كان أحد المنابر الإعلامية والسياسية والثقافية والفنية، المعبّرة عن محطات مهمة في كفاح الشعب الفلسطيني خلال عقود خلت.بحثت «الأخبار» عن أسباب غياب هذا الفن السياسي، فجالت في عدد من المخيمات الفلسطينية في سوريا، واستطلعت بعض الآراء.

الشهداء ليسوا سواسية!
الفنان التشكيلي الفلسطيني والأسير المحرّر محمد الركوعي المقيم في دمشق، اعتبر أن أسباب تراجع دور الملصق السياسي الفلسطيني متعدّدة، منها «تراجع في الفصائل الفلسطينية لأكثر من سبب، ففصائلنا تعتمد على الدعم الخارجي في تغطية التكاليف، ولذلك تقلّص دورها في الجانب الإعلامي». كما اعتبر الركوعي أن الشهداء لم تعد الفصائل توليهم «الاهتمام اللازم حين استشهادهم» بطبع بوستر لهم، موضحاً «إلا إن كان الشهيد قيادياً بارزاً، بينما إذا كان الشهيد مقاتلاً عادياً، فالفصائل تنشر له صورة وتعريفاً بسيرته على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي».
ومن المعروف أن الفنان الركوعي، الذي عرفه الناس برسوماته داخل الأسر، يواكب كل حدث فلسطيني بفنّه، فذكر في حديثه إلى «الأخبار» أنه أنجز جداريتين في الآونة الأخيرة، «واحدة منهما لمناسبة انطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لكنها لم تحظَ باهتمام إعلامي مناسب، وأخرى عن معركة طوفان الأقصى أسميتها طوفان فلسطين حتى لا تأخذ أي صبغة دينية، لأن حربنا ضد الصهاينة ليست دينية، بل وطنية وقومية».

الفن ليس محايداً
الفنان التشكيلي محمود خليلي، وجد أن «البوستر السياسي الفلسطيني لم يكن محايداً في يوم ما، بل كان واضحاً في شكله ومضمونه، وقريباً من الجماهير، ينشط ويخبو حسب قوة الحدث وتأثيره».
واعتبر خليلي أن «طوفان الأقصى الحدث الأكثر فخراً لشجاعة الشعب والمقاومة، والأكثر بشاعة ووحشية في سلوك العدو، أدّى إلى مسارعة الفنانين في كل أنحاء العالم، وفي مقدّمتهم الفلسطينيون، للتعبير عن هول ما يجري». وأشار خليلي في حديثه إلى لجوء الفنانين اليوم للتقنيات الحديثة في التعبير عن الحدث، قائلاً: «خدم الفنانين في تحقيق نتاجاتهم، توفّر برامج التصميم الفني ومطواعيتها، فشاهدنا المئات بل الآلاف من البوسترات المؤيّدة للشعب الفلسطيني، والمندّدة بوحشية العدو، مرفوعة في التظاهرات التي جابت شوارع العالم، وشاهدنا الكثير منها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الوسيلة الأكثر انتشاراً وفاعلية».
لكنه، يعود ويؤكد على قيمة «البوستر» المطبوع، الذي يرى أن له «أهميته الخاصة، لقدرته الكبرى على التأثير والتحريض واجتياح المشاعر».

قيّدوا حرية التعبير
الصحافية فدوى محمد، من موقعها أيضاً لم تفترق عن الفنانين، فأشارت في حديثها إلى أنه «مع مرور الوقت، تراجع دور الملصق السياسيّ الفلسطينيّ بشكل ملحوظ، وباتت الساحة الفلسطينية خالية من الفنانين والكتّاب والشعراء الذين كانوا يغذّون هذا الفنّ بإبداعاتهم. فسيطرت الفصائل على المشهد الثقافيّ، وفرضتْ قيوداً على حرية التعبير، ما أدّى إلى تراجع الإبداع الفنيّ بشكل عامّ».
واعتبرت محمد أن عودة الروح إلى الملصق السياسيّ الفلسطينيّ تتطلّب «تضافر جهود الفنانين والكتّاب والشعراء، ودعمهم من قبل المؤسسات الثقافية والفصائل الفلسطينية».

الملصق في ذاكرة السياسي
يتوافق مسؤول الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الخارج عمر مراد، مع ما ذهبت إليه محمد، مؤكداً أن إمكانية عودة الحياة للملصق ممكنة، بشرط «أن ترعاه مؤسسات من العيار الثقيل، تكون غايتها الأولى الوعي وليس الريع».

وفي حديث إلى «الأخبار» ردّ تراجع «البوستر» ودوره السياسي والتعبوي إلى «تراجع المد الثوري واجتياح لبنان عام 1982، وانتهاء أو انحسار الظاهرة العلنية للثورة الفلسطينية، وإطباق الحصار عليها وعلى منظمة التحرير الفلسطينية في ما بعد. وبالتالي بدأ انهيار العديد من المؤسسات التي كانت ترعى الملصق ومختلف الفنون. وبعد اتفاقيات أوسلو البائسة إن لم نقل المذلّة، تفاقم الشعور بالإحباط والخذلان لدى الشعب الفلسطيني». كما اعتبر أن ظهور القنوات الفضائية، وانتشار الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي، ساهما في ضعف فن الملصق أو «البوستر»، إذ ساهمت جميعها في الانتشار السريع للمعلومة، مضيفاً أن مسألة تراجع دور الملصق الفلسطيني «لا تتعلق بقيمته الفنية ولا بالمحتوى الثقافي أو السياسي الذي يطرحه، إنما بظروف المرحلة التاريخية وطريقة إيصاله إلى الفئات الاجتماعية المختلفة».

جدران المخيمات باردة ويتيمة
المدرّس حيدر مثقال، عاد بذاكرته سنوات إلى الوراء، حين كان في طفولته يستيقظ وأطفال المخيم، و«البوسترات» قد غطّت شوارع مخيم السيدة زينب في ريف دمشق، إعلاناً عن شهيد أو عملية أو مناسبة وطنية «كان هذا الحال في كل المخيمات، نستيقظ على صور الشهداء، شهداء فلسطين منشورة هنا وهناك، ننظر إليها، ونتعرف إلى أسماء هؤلاء الأبطال، والعمليات البطولية التي قاموا بها، والفصائل التي انتموا إليها. كان البوستر أداتنا لمعرفة كم تكبّد العدو من خسائر. وغالباً ما كنا نرى ثلة من الشباب يقومون بوضع هذه «البوسترات» فنطلب منهم المشاركة، فيسمحون لنا بذلك، فنعمل ونحن نشعر بالفخر والسعادة، وكأنه واجب علينا. كانت النساء والأطفال والشيوخ يقفون أمام البوسترات لمشاهدته وقراءة ما فيه من معلومات ومعانٍ».