ما قبل عملية «طوفان الأقصى» ليس كما بعدها، عبارة كثر ترديدها أخيراً، وهذا صحيح، ليس فلسطينياً فقط، فالعملية قلبت الموازين لما اعتُبِرَ «قواعد اشتباك»، وغيرها من التفاهمات غير المكتوبة، في فلسطين المحتلة وخارجها. وبالتالي، ما كان مقبولاً قبل العملية لم يعد كذلك بعدها، وما كان يمكن تأجيله أو التغاضي عنه قبل العملية، لم يعد ممكناً، وأكثر، صار بعدها بمثابة مقتل لا يمكن السماح به أو استمراره، ومن هنا، عقدة «إسرائيل» الأكبر لجهة مواصلة حربها في القطاع، فهي لم تحقق أياً من الأهداف، ما يُصعِّب، مأزق ائتلافها الحكومي، وحساسية الظروف الخاصة بنتنياهو، إن لجهة القضايا والتهم الموجّهة ضده، أو لجهة مستقبله السياسي بشكل عام.
بالنسبة إلى الإسرائيلي، الحسابات معقّدة وصعبة، عنده، قطاع غزة هو أرض معركة تدور داخل «جسده»، على أرض فلسطينية هي جزء من أراضي فلسطين التاريخية، التي اغتصب الجزء الأكبر منها، والتي لا يزال يخطط ويعمل لاغتصاب ما تبقّى منها، في سياق «دولته» الكبرى، التي ستزول بموجبها دول عربية، وسيتم احتلال أجزاء من دول أخرى، لكنه يدرك أيضاً، أن غزة جزءٌ من معركة في مشروع أكبر وأوسع، وبالنسبة إليه، الأرض فيها مكان وجود وبقاء، مشروع غير قابل للتجزئة أو الأنصاف، وفق فكرة «إسرائيل الكبرى» التي أُسِّسَ عليها، ووفق أهدافها طبعاً، لهذا، رأينا ونرى هذا التوحش غير المسبوق في سفك الدماء، واختراق كل الأسقف التي سبقت جرائم الحرب الإسرائيلية بحق الفلسطينيين.

ربطاً، سيكون من غير المنطقي رؤية المسألة ببعدها الفلسطيني فقط، كجغرافيا فلسطينية في الصراع، من هذه الزاوية يجب قراءة المشاركة الأميركية ثم الأوروبية، فبعد عملية «طوفان الأقصى»، فُتِحَت الحدودُ على ميادين المواجهة كلِّها تقريباً، بين مشروعين، بين محورين، تتزعم الأول الدولة «الأقوى» عالمياً، الولايات المتحدة الأميركية برأس حربتها في المنطقة إسرائيل، وتقود المحور الثاني إيران، ومعها دول وفصائل مقاومة، لكل منها معاركه المنفصلة (من حيث الشكل)، مع الأميركي أو مع الإسرائيلي والأميركي معاً، وعلى امتداد جغرافي يبدأ داخل فلسطين، والشواطئ الشرقية للبحر المتوسط، وصولاً إلى المضائق وبوابات الهندي.

الوضع عند الحدود الفلسطينية اللبنانية يأتي في هذا السياق، هو امتداد للحرب في غزة ولكن بشروط مختلفة، يحرص الجميع، حتى الآن، على عدم تدحرجها لتصير حرباً، من المرجّح أن تورّط الجميع بحرب مفتوحة، والكلام نفسه يصح بالنسبة إلى اليمن على الرغم من مواصلة استهدافه للسفن المتجهة إلى كيان الاحتلال، الضربات التي وجّهها الأميركي والبريطاني، كانت تحت سقف عدم الانجرار إلى حرب مفتوحة، كذلك يُقرأ استهداف القواعد الأميركية في العراق، وفي الأردن أخيراً، وحتى الساعة، يحرص الأميركي على عدم تجاوز الخطوط الحمر إيرانياً، وبالمناسبة، كلا الطرفين، الأميركي والإيراني يعرفان هذه الخطوط جيداً، ولم تفلح المحاولات الإسرائيلية بدفع الأميركي على تدخل أكبر، فبالنسبة إلى الأخير، عمليات الاغتيال التي نفّذتها إسرائيل، والتي طاولت قادةً رفيعي المستوى في الحرس الثوري الإيراني في سوريا، هي عمليات مقبولة، طالما أنها في إطارها الجغرافي هذا، ولا تتخطى الخطوط الحمر، بينما هي مطلوبة أميركياً في ظروف معينة، منها، ضرورة الإبقاء على مستوى معينٍ من النقاط التي حققها محور المقاومة، وكيف تُحتسبُ مستقبلاً لصالح طهران.

متى يذهب المتقاتلون أو المتصارعون إلى التسويات؟ الإجابة الأكثر بساطة هي واحدة من اثنتين، حين تكون لأهداف ودواع إنسانية، ومع الأسف، نادراً ما حدث أو يحدث ذلك، والرهان على هكذا تسويات غير واقعي، ويكاد يكون غباءً، والإجابة الثانية هي، حين يُهزم أو يضعف أحد الأطراف، ما يعني انتصاراً للآخر، الذهاب إلى هكذا تسوية يقتضي أن تكون قوياً، وإلا ستكون مشاركتك للإقرار بالهزيمة، وللتوقيع، بشهادة دولية، عن تخليك عن مزيد من الحقوق. جميع اتفاقيات «السلام» التي وُقِّعت مع الجانب الإسرائيلي تؤكد ذلك، بينما تؤكد تجارب تفاوض الأقوياء العكس، كان المفاوض الفيتنامي يتراجع عما قبل الحديث حوله في اليوم الفائت، لأن مقاوميه حقّقوا إنجازاً أو تقدّماً ما خلال الليل، كانت لبندقية الجنرال جياب الكلمة الأخيرة على طاولة التفاوض.

بما يخص منطقتنا، ارتفع منسوب الحديث أخيراً عن «تسوية شاملة»،إذ تُعطى السعودية فيها دوراً محورياً، ومع إعطاء الأهمية للموقف الأميركي، وخصوصيته ربطاً بالانتخابات الرئاسية، وما ستكون عليه سياسة واشنطن في المنطقة، فالإصرار الإسرائيلي على استمرار الحرب في غزة يأتي في هذا السياق، بهدف تحسين وضعه عندما يحين وقت التفاوض، وهنا، من المهم جداً التذكير، بأن صمود المقاومة الفلسطينية وإنجازاتها، هي الأخرى جزء في هذا السياق، بل هي القلب، وعليها تُعقد آمال محورٍ بأكمله، فالمقاومة الفلسطينية، وحماس على رأسها، هي حملة الراية في المرحلة المقبلة.

في هذه المواجهة بين المحورين، بدا بشكل أكثر وضوحاً كيفية تفكير كل من الطرفين، الأميركي أولاً، ثم الإسرائيلي، والإيراني في المقابل، شيء يشبه نمطاً تفكيرياً، سمة تكاد تكون جزءاً من الشخصية والهوية، بين من يفضّل الفوز بالضربات القاضية، أقصد الأميركي والإسرائيلي، ومن «الفوز بالنقاط» يكاد يكون جزءاً من شخصيته. هكذا يخبرنا مسار الأحداث خلال العقود الأربعة الماضية، بدءاً من السنوات الأولى بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، مروراً بالحرب العراقية الإيرانية، وصولاً إلى الاحتلال الأميركي لأفغانستان، ثم العراق، وما ترتّب عنهما من نتائج، حرص كل طرف على ترصيدها في مشروعه، مرحلياً واستراتيجياً.

قد يبدو هذا الكلام قاسياً ومقلقاً، وسيرى فيه البعض مجرد استخدام واستغلال من قبل الأطراف الأكثر قوة، وسيتم (كما يجري الآن) استخدامه إلى أبعد الحدود في الاتهام السياسي، وفي الواقع، لقد تحوّل إلى جزء من المواجهة والصراع، عبر كل وسيلة مَمكنة من فضائيات ومواقع إخبارية وجمعيات ومنظمات «غير حكومية»، وفي هذا المجال، يتقدم الأميركي ومن معه بسبب الإمكانات الكبيرة تكنولوجياً ومادياً، ومع ذلك، هذا اتهام يجب التعامل معه بحزم وبجدية أكثر، يجب التعامل معه وفق منهجية أكثر فاعلية تتناسب مع ما يحققه هذا المحور من إنجازات.

إن مراجعة دقيقة للعلاقة بين قوى محور المقاومة والدولة التي تقوده، والتي تدعمه علناً أمام العالم كله، تقول بأن القاسم المشترك الأهم بينهما هو القضية الفلسطينية، إذ الجميع يؤمن بقدسيتها فعلاً، والصراع مع كيان الاحتلال هو مسألة حق وباطل، ورفض الهيمنة الأميركية واجب ديني وأخلاقي وإنساني. هذه ثوابت غير قابلة للنقاش أو المساومة، وعلى رأسها قضية فلسطين، التي هي أكبر وأهم من أي اختلاف أو حتى خلاف، بهذا الالتزام تمّت وتتم مواجهة التحديات، وتمّ تخطي كل محاولات الفتن الطائفية. فالتنوع الطائفي هو عنصر قوة بالنسبة إلى المنضوين في هذا المحور، ويجب أن يكون، ولهذا هو أكثر ما يُصوّبُ عليه أعداؤهم، والمهم، أن لا ينسى البعض ذلك، فما من «ضرورات» لتستباح «المحظورات»، فإذا لم تُذعِن وترضى بها كضرورات، فكيف بالمقدّس.