لكل اشتباك طوفانه، ولكل طوفانٍ روحه، مساراته، سيرورته وعدّة شغله، جديده وإفرازاته، ولا سيما أن الاشتباك بكل ألوانه حاضر منذ أن نشأ الصراع. هو اشتعال يرتسم على شكل قدري أحياناً، وله مذهب الحتمية أحياناً أخرى. فيه تبذل المهور الغالية، وفيه يتحقق الفرز الإنساني العظيم. من منكم بلا طوفان يفقد الإنسان فيه. هكذا تصير اللحظة الفلسطينية الفارقة، والممهورة بتوقيع غزة، الحد الفاصل في الحكم على روح العالم واتجاه البوصلة.وعلى متن الطوفان كانت تخفق الرايات، رايات الساحات، لكل ساحة اشتباكها، الشروط الخاصة لتطورها وبرنامجها المرحلي، لكن الخصم واحد، والقراءة ربما تكون في كتاب واحد. وإذا كان الاشتباك هو أوكسجين الحياة، فإن الطوفان، الطوفان الفلسطيني على وجه التحديد، هو ضرورة وجودية لكل الساحات، كل ساحة تعطيه ما تستطيع، وكل ساحة تغرف منه ما تشاء، وهكذا يمسى الطوفان عملية تاريخية يصير بها طوفاناً جمعياً، ويتمدد من الإقليمي إلى الأممي، فاتحاً الباب أمام فرصة تذهب نحو المستقبل.
ولئن كان شعار «وحدة الساحات» الذي يستجيب لسؤال خلق التوازن ولو بالقوة، وقد طرح بعيد معركة «سيف القدس»، فإن «طوفان الأقصى» كان المختبر الحقيقي له، فهو أعطى حركات المقاومة الفرصة للقراءة في أبعاد الشعار، وواقعيته، وجديته، ومداه، وفرصه، ونقاط قوته ونقاط ضعفه، وفوق ذلك فرض إمكانية صياغة استراتيجية مواجهة، لها ما لها من أدوار، ومواقع، وحقوق وواجبات.
يمكن النظر إلى عملية «طوفان الأقصى» باعتبارها تمثّل إسقاطاً بالقوة، أي عملية فيزيائية فرضت تغييراً بالقوة على الحركة الميكانيكية، ليس على الجسد الفلسطيني فقط، بل وبلا مبالغة على العالم أجمع. لقد صارت حركة التفكير، والتخطيط، وتحديد الأولويات، والبرامج والمشاريع، مضطرّة حكماً وبقوة الفعل، إلى أن تتأثر بضغط «الطوفان»، لتدخل في تشكّل جديد يتبلور، ليست معروفةً نهاياته بعد.
ميزة هذه العملية أنها، بتوقيتها وكيفيتها، جاءت من خارج الصندوق، وهو ما أعطاها ثقلاً وقوة وإشعاعاً قلّ نظيره. هذا الثقل جاء من فوق، وانطلاقاً من حيثية الجغرافيا وحساسية الموقع (إسرائيل دورها ووظيفتها)، فإنه فرض على الحركة (محور إسرائيل الحالي واللاحق بحكم التخطيط والترتيبات، والمصالح والأولويات)، مترتّبات التفاعل السريع.
ينبثق مما تقدم استدلال محدد، ينطلق من حقيقة أنه بحكم الترابط العضوي بين مكونات «السيستم» واندماج المصالح والمنافع، فإن رأسمال الربح والخسارة لـ«السيستم» سيكون شاملاً، ولا سيما على المدى الاستراتيجي، والعكس صحيح بالنسبة إلى جبهات المقاومة، والحركات والقوى الاجتماعية المتآلفة أو المستفيدة.
وحتى ميقات الطوفان الفلسطيني، كان مصطلح «وحدة الساحات» يوحي بكونه مجرد شعار من فوق، طرحه محور المقاومة باعتباره يمثّل انعكاساً ضرورياً لمقولة أن أصل المشكلة في المنطقة، إنما يتمثل في «السيستم» وحركة مصالح أطرافه، ويتمثل أيضاً في وجود إسرائيل كقاعدة متقدمة له في المنطقة، وبالتالي فإنه لا خلاص للمنطقة وشعوبها، إلا من خلال إزالة هذا الوجود. وعليه، صارت فلسطين هي القلب والبوصلة التي تتجه إليها حركات المقاومة.
بهذا المعنى، تبلورت قناعة تقول بعدم وجود أو غياب استراتيجية واحدة واضحة تتكامل فيها التكتيكات، والأدوار والمواقع، وهي مساهمات ربما تكون مقيّدة في المعارك المرحلية، بالشروط الخاصة لحركات المقاومة في بلدانها.
وشاءت سياقات الطوفان أن تدفع، وبالقوة، بهذا الطرح أو الشعار، والمبدأ، والتكتيك أو الاستراتيجية، إلى حيز الواقع، فصار لا بد من أن ترتسم توقعات، وفضاءات، وتتحقق نتائج.
إن حركة التوقعات تماوجت بين منتهى التفاؤل وقاع التشاؤم، فهي كانت تتحرك بسرعة كبيرة صعوداً لتصنع تحريراً لفلسطين. فإذا كانت «كتائب القسام» وشقيقاتها من حركات المقاومة الفلسطينية قد استطاعت، رغم كل ظروفها، أن تحقق هذا الإعجاز، فكيف سيكون الأمر وهناك حركات المقاومة في لبنان والعراق واليمن، وقد راكمت من أسباب القوة ما يكفي لتحقيق انتصار عظيم فيما لو اندفعت بنفس اندفاعة «الطوفان».
ولم تلبث التوقعات أن سكنت، ليحل مكانها تفسيرات أكثر عقلانية، منها ما يشيطن الحركات فيضعها في موقع أنها تتحرك وفق حركة المصالح الإيرانية، ومنها ما يربطها بظروف كل من العراق، ولبنان وفلسطين. وبالتالي، فإن الدور المطلوب أو الممكن من حركات المقاومة الآن يتمثل فقط في إسناد ودعم المقاومة في غزة من خلال استنزاف العدو، وهو دور كبير له نتائج وتأثيرات في مسار المعركة، لكنه كان يتعاكس وطموحات الجماهير الشعبية التوّاقة إلى قهر العدو وتحطيم كبريائه.
هناك دائماً احتمالات أخرى تختبئ في طيّات الممارسات، وتنسجم أكثر مع الموروث، وهي احتمالات ربما تكون أكثر جدية وصدقية، ولا سيما في مقولة أن من يدير دفة حركات المقاومة يقرأ جيداً، ويرسم السيناريوات بعبقرية بالغة، تعرف ما هو مطلوب من كل معركة. فإنها لا ترى في «طوفان الأقصى» المعركة الخاتمة، التي تحقق النتائج النهائية، وعليه، المطلوب استثمار الحد الأقصى الممكن من هذه المعركة وتوظيفها في سياق المعارك القادمة.
وما وجد بقوة الفعل أصبح حقيقة، ويجب التعامل معه بقوة الحقيقة، الغرب بحسب ادعائه يعترف بالحقائق التي تؤكد بالأدلة. فلقد تحولت «وحدة الساحات» بقوة الفعل إلى واقع يفرض نفسه على مكونات هذه «الوحدة» وعلى غيرهم من اللاعبين الفاعلين، وتحديداً مكونات «السيستم» الغربي نفسه، الذي سيعمل بكل القوة المتاحة من أجل ضرب هذه المقولة، سواء من خلال شيطنتها، أو من خلال الاستفراد بكل مكون من مكونات «وحدة الساحات»، وإلهاء بيئات المقاومة بقضايا محلية، وهو ما يفرض على المحور بدوره تطوير استراتيجيته، انطلاقاً من النتائج النهائية التي ستفضي إليها التسوية القادمة.
ويوحي الخطاب السياسي لقوى المقاومة بأن المعركة توشك على النهاية، ولعدّة اعتبارات مرتبطة بالكيان الصهيوني نفسه وقدراته، وقدرة المجتمع الدولي و«السيستم» نفسه على تحمّل استمرار المعركة، واحتمالاتها التصعيدية، ولا سيما مع التهاب الجبهات الأخرى.
ولئن كان المطلوب من المقاومة الفلسطينية أن تتماسك سياسياً، وأن تقفز فوق الرشى الخادعة، والاستمرار بالصمود الميداني، من أجل تسوية تستثمر في المعارك القادمة، ضمن قناعة تؤكد أن ما بعد لن يكون كما قبل، فإن على جبهات المقاومة أن تتحرك بنفس الوتيرة على اعتبار أن المعركة واحدة، بهذا المعنى تكون الحرب امتداداً وهو ما يتطلّب:
أولاً: فتح المعركة على مستوى الوعي والإدارة، لا إغلاقها، واعتبار المعارك القادمة من أجل إعادة البناء والترميم والتطوير، هي ضمن فضاء المعارك الكبرى القادمة.
ثانياً: نحو ترسيخ أكثر لمبدأ «وحدة الساحات» من خلال التأطير الجبهوي، بالدخول في ورشة عمل جامعة لكل مكونات «وحدة الساحات»، ينتج منها «تقدير وضع»، وإجابة عن سؤال، ماذا نريد جميعاً؟ وتحديد كيفية الوصول إلى ما نريد، على قاعدة أن هناك احتمالاً بأن ينكفئ كل مكوّن على ذاته وأولوياته.
ثالثاً: ولئن كان الدور الفلسطيني بحكم تماسّه مع العدو ومعركته الوجودية معه، هو الدور الرائد، فإن قراءة النتائج المحققة والتي ستتحقق تتطلب ترقية الخطاب السياسي بحيث يتوازن بين البعد الوطني، القومي والأممي، والتركيز على مهام إعادة البناء والتطوير، ولا سيما أن التحالف المعادي سيعمل على حرف وإلهاء الحركة الفلسطينية. وفي هذا السياق يأتي السؤال حول الجدوى من التساوق مع طرح «الدولتين»، سواء كان مباشراً أو موارباً.
رابعاً: الانفتاح على مقولة أن الحرب في غزة وانكشاف بشاعة «السيستم»، وكذبه وازدواجيته، قد فتحت المجال واسعاً نحو جمهور أكبر من بيئات محور المقاومة. والسؤال الذي يطرح نفسه، هل بإمكان مكونات «وحدة الساحات»، الانخراط في معسكر أممي يواجه «السيستم» الإمبريالي المتوحش؟ وهو ما يمثل اختراقاً لعملية الإحلال التي عمل عليها «السيستم» التي كانت تربط المقاومة والنضال في سبيل الحقوق بالإرهاب، فقد صار بالإمكان التحقق من فرضية أن مقاومة «السيستم» وإمكانية قهره، خلقت جاذبية للمقاومة في بيئات ظلت أسيرة للدعاية المضادة لعقود من الزمن.
إن «طوفان الأقصى»، كيفيته، ومداه، وإشعاعه، وحرب الإبادة التي تلته، وحركة الاصطفافات، وشروع التحالفات بالممارسات الميدانية، والغرب الإمبريالي والقوى المتضررة من جهة وقوى المقاومة والمجموعات المؤيدة لها أو المناهضة للغرب الاستعماري من جهة أخرى، وطول أمد المعركة، حوّلها إلى عملية تاريخية حكماً، وربما يكون قد ساهم في تسريع عملية التغيير الضرورية من أجل عالم جديد. وعليه، فإن الانتظام في موجبات هذه العملية، إن كان بالسياسة، أو بالانخراط بالعملية العسكرية، أو الدعم والتمويل، يجب أن يكون بمستوى العملية التاريخية.