يتداول الفلسطينيون مصطلح «خرّف» بمعناه البلدي أي تكلم أو أخبر، وفي بعض المناطق يضاف إليه حرف النون ليصبح «خرفن»، ومن اشتقاقاته القول: «فلان خرّفني»، بمعنى تكلم معي أو حادثني. ويستخدم أيضاً كاسم، كما في «خرّاف» للدلالة على قصة معينة وجمعها «خراريف» بمعنى قصص وحكايات مختلفة. ويُعتقد أن هذا المصطلح في جذره يعود إلى فصل الخريف، باعتبار أن الفلاحين فيه يحصدون مزروعاتهم، ولا سيما الزيتون، وأثناء عملية القطف والعصر والبيع، يتناقلون الأحاديث الصحيحة أو النميمة المخترعة. وربما يعود أيضاً إلى «الخُرَافَة»، ووفقاً لـ«لسان العرب» يعني الحديث المستَمْلَح المكذوب. وفي كل الأحوال، يُسقط الفلسطينيون هذا المصطلح على الكثير من شؤون حياتهم اليومية وعلى عدوّهم تحديداً.
■ ■ ■

يبدو من المهم، في خلال هذه المعركة الوجودية الصفرية، أن نسقط بعض الخرافات حول جيش العدو. منها أن الجندي الإسرائيلي جبان ولا يمتلك شجاعة، وتبدو الحقيقة العملياتية أن لديه أوامر وبرتوكولاً في الميدان يتصرف تبعاً لهما. وهنا، يختلف الجندي من لواء إلى آخر، أو من كتيبة إلى أخرى، حسب طبيعة المهمة والدور. ومن المعروف أن تجهيزات الجندي تكلف عشرات آلاف الدولارات، إضافة إلى خضوعه لدورات تخصصية، ولا سيما إذا كان في الوحدات الخاصة الجوية أو البرية أو البحرية، وهذا يعني أنه كلف جهداً ووقتاً. لذلك تأسّف كثيراً المتحدث باسم جيش العدو ومعه المعلّقون السياسيون على مقتل الرائد يتسهار هوفمان، من وحدة «شلداغ» (نخبة سلاح الجو) في غزة، لما اعتبروه أن تعويضه يحتاج إلى مال ووقت. ويجنّد جيش الاحتلال أكثر من 646 ألف جندي، بينهم 173 ألف جندي في الخدمة حالياً، و464 ألفاً من جنود الاحتياط. كما يوجد داخل إسرائيل أكثر من مليون و700 ألف شخص مؤهل للخدمة العسكرية. ووفقاً لهذه الأرقام، فإن مقتل الجنود والضباط يمكن تعويضه، لكن جنود وضباط الاختصاص، من الصعب تعويضهم فوراً، لذلك يتم الحرص على تنفيذ الخطط أهم من الإقدام أو التضحية بخسائر بشرية ومادية. وعليه، عمل جيش الاحتلال على تأمين أفضل أنواع التسليح والعتاد لجنوده، لتحقيق نتائج مميزة بخسائر أقل. ويفيد «معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلم»، أن «إسرائيل أنفقت عام 2022، أكثر من 23 ملياراً و400 مليون دولار على الجيش والتسليح، أي أنها أنفقت 4.5% من الناتج المحلي على الجيش، وهي عاشر أعلى نسبة إنفاق عسكري في العالم».
■ ■ ■

وهناك خرافة تؤكد أن جيش الاحتلال كلاسيكي مثل الجيوش الأخرى، وأنه لا يستطيع خوض «حرب عصابات» أو «معارك شوارع». لكن الحقيقة أن جيش العدو تمكن من التفوق على هذه المعضلات عبر تشكيله قوات خاصة مدربة على كل أنواع القتال. وكشف الاحتلال عام 2017، أن جيشه استحدث «القوة الحمراء»، وهي «سرية في كل كتيبة في القوات البرية بالجيش، وتتألف عناصرها من جنود الاحتياط بعد أن يخضعوا لتعليم يؤهلهم لمعرفة طبيعة الجغرافيا والعدو المحتمل، وكيف يقاتل عناصره عبر تدريبات تحاكي قدراته وأساليبه القتالية». لذلك يُدرب الجيش هذه «القوة» على أسلحة روسية وصينية تشبه سلاح المقاومة الفلسطينية واللبنانية. وبحسب وثيقة سرية كشفتها صحيفة «هآرتس»، فإن «تغييرات طرأت على هيكل التدريبات في الجيش؛ أفرزت بناء أنفاق قتالية في قواعد تدريبات عسكرية، إلى جانب إجراء الوحدات الإسرائيلية تدريبات داخل المناطق المأهولة بالسكان، ولا سيما القرى الدرزية، ككفر سميع وفسوطة (في الجليل الأعلى شمال فلسطين المحتلة)». وتضيف الوثيقة أن «جيش الاحتلال يدرب الجنود لمواجهات محتملة تحت الأرض، وذلك لتحسين قدراتهم وإدراكهم لمظهر العدو، ورفع مستوى إمكاناتهم وتعاملهم مع أرضه وسلاحه». وهكذا يصبح تفوق جيش الاحتلال لا يعود لسلاح الجو فقط أو قدرة المدرعات، وإنما أيضاً على قدرات بشرية مؤهلة على الاشتباك في أي وضعية كانت.
■ ■ ■

أمّا الخرافة الأخرى، وهي أن جيش العدو يمتلك عقيدة في الخطط العسكرية، لكنه لا يمتلك عقيدة قتالية بمفهومها الفكري، أي أن الجندي الإسرائيلي يحب الحياة أكثر من الفداء والتضحية، وهذا غير مثبت. فالشحن التعبوي جزء من العقيدة العسكرية، حيث يحتاج القتال إلى روح معنوية تستند إلى الدين أو الأيديولوجيا، وهذا مشبع لدى جيش الاحتلال. وبالتالي، تجد النفخ بالبوق و«الكيباه» على الرأس تحت الخوذة (ظهرت بعض هذه المشاهد)، ومعهم دائماً الحَبْر والراب (راڤ) والحاخام وكتيبات للتعاليم والشعائر والطقوس الدينية.
وهذه المعركة أثبتت الانتماء عندهم، فحضر آلاف جنود الاحتياط، مزدوجو الجنسية، من أوروبا والولايات المتحدة، وغالبية دول العالم، حتى من جنوب أفريقيا. وعلى سبيل المثال، قال النائب الفرنسي توماس بورتيه في تغريدة عبر منصة «إكس»: «بعثت رسمياً برسالة إلى وزير العدل إيريك دوبوند موريتي، أطلب منه استخدام سلطته في التوجيه، حتى يتمكن من فتح تحقيقات بشأن 4 آلاف فرنسي موجودين على الجبهة في غزة، ضمن الجيش الإسرائيلي». وتشير صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية إلى أنه «على الرغم من أن المواطنين الأميركيين يشكلون أقل من 2% من سكان إسرائيل، إلا أنهم يمثلون ما يقرب من 10% من قتلى الحرب، منذ بدء الغزو البري في غزة. قتل 23 أميركياً أثناء خدمتهم في الجيش أو الشرطة الإسرائيلية (21 داخل غزة وواحد عند الحدود الشمالية مع لبنان، وآخر في القدس أثناء خدمته في شرطة الحدود الإسرائيلية)». وهذا شكّل مفارقة بالولاء، حيث لا يوجد في القانون الإسرائيلي ما يلزم التخلي عن الجنسية عند الحصول على جنسية أخرى، إذ يُسمح بالحصول على جنسية مزدوجة، وحتى جنسيات متعددة.
ويضاف إلى مزدوجي الجنسية، من ينضمون إلى الجيش ويسمون بـ«الجنود الوحيدين» وهم يتبرعون بالانضمام إلى الجيش، من دون أن تكون لهم عائلات في إسرائيل. وقد ذكرت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية أنه «وفقاً لبيانات الجيش، فإنه عام 2021 انضم 2507 مهاجرين جدد إلى الجيش الإسرائيلي كجنود وحيدين، أو جنود لا يعيشون مع عائلاتهم، بما في ذلك 59 من جنوب أفريقيا». ويشير «مركز الجنود الوحيدين» في موقعه على الإنترنت إلى أن «الجندي الوحيد، هو جندي في الجيش ليس لديه عائلة في إسرائيل تدعمه: مهاجر جديد، متطوع من الخارج، يتيم أو فرد من منزل مفكك». ويضيف المركز أن «أكثر من 7 آلاف جندي وحيد، يخدمون حالياً في الجيش، حوالي 45% منهم من المهاجرين الجدد القادمين من الجاليات اليهودية في جميع أنحاء العالم، و50% من الإسرائيليين الأيتام، أو الذين يأتون من خلفيات اجتماعية واقتصادية منخفضة».
نستخلص من ذلك أن جنود العدو لا يفرّون كما تصوّر الحكايات الشعبية، وإنما يقاتلون بشراسة. وهذا يثبت شجاعة وبراعة المقاومين وقدراتهم القتالية العالية تخطيطاً وتنفيذاً.
الحكمة الأساسية من وراء هذه المادة، هي: حين تُكبّر عدوّك تكبر. فنحن نقاتل جيشاً لديه قدرات تكنولوجية وعدة وعتاد مهول ومدرب، وضباطه تخرجوا في أهم الكليات العسكرية في العالم ويملك كل ما يشاء لينتصر، ومع ذلك نهزمه شر هزيمة. وأهم ما يفعله فدائيو غزة حالياً أنهم أسقطوا كل الخرافات، وفي مقدمتها خرافة دولة أسموها إسرائيل.