جنين | خطواتك تسير بشغفٍ نحو البلدة القديمة في جنين، تسأل عن عنوانه، يجيبك الكثيرون، فالاسم حاضر في ذهن جيرانه وأهل حيّه ومدينته. تنعطف نحو مدخل البيت المظلّل بالأقواس القديمة الرطبة، تنادي بعد أن تَطرق الباب الحديدي القديم بيدك، فيخرج عليك الطفل الباقي عند والده من الأسرة، إنه أحمد ابن الثلاثة عشر ربيعاً، يصطحبك بابتسامة مؤدّبة، فتجد غرفة متواضعة جداً، فيها رجلٌ مُقعدٌ يجلس على كرسيّه المتحرك وأمامه سرير عتيق، وطاولة عليها أغراض كثيرة. رائحة الرطوبة تملأ المكان، والعينان اللتان ترحبان بك تنضحان بالأحزان، وعلى قسمات وجهه المنهكة من الأمراض ملخّص غبار قصة معركة صراع دائم مع المحتل، وجرح مفتوح لا زال ينزف من دون توقف منذ 35 عاماً، بدأ برصاصة، ولم يُغلق بفقدان فلذات الأكباد.

الرصاصة الأولى
عرَّف بنفسه فقال: أنا ناصر حسن عبد الفتاح صلاح، مواليد نهاية عام النكسة 1967 في قرية كفردان (خمسة كلم غرب جنين)، رحلنا إلى جنين قبل أن أبلغ سن السادسة، ومنذ ذلك الحين، ونحن نقطن في هذا البيت.
وعن إصابته الأولى يقول، عندما اشتدت الانتفاضة الأولى، انتفاضة الحجارة، كانت سني 19 عاماً. جرت مواجهات في حيّنا هذا بين قوات الاحتلال والشبان من أبناء المدينة، فخرجت للمشاركة، وكانت مواجهات حامية وعنيفة، وغير بعيدة عن بيتنا. تعرّضت للإصابة برصاصة اخترقت صدري، واستقرّت في النخاع الشوكي في الظهر، أُغمي عليّ، ونُقلت إلى مستشفى جنين، ونظراً إلى خطورة حالتي، حُوِّلت إلى مستشفى رفيديا في نابلس، وبعد أسبوع إلى مستشفى الاتحاد في المدينة ذاتها.
يضيف بصوته المتقطّع: مكثت هناك قرابة العام للعلاج، وقد فقدت الإحساس في أعضاء جسمي كافة، إلا اللسان. نُقلت لاحقاً إلى مقر «الجمعية العربية» في بيت لحم، وبقيت هناك مدة عام أيضاً، من أجل الخضوع لجلسات علاج طبيعي، وقد تعرّضت خلال نقلي لتعسف واستفزازات وتوقيف من قبل حواجز الجيش المحتل، وكان هذا يحدث طيلة فترة العلاج، والتنقل بين المدن الفلسطينية.

الزواج والأمل
يذكر ناصر، أنه أنهى العلاجين الطبي والطبيعي، والرصاصة ظلت «تسكن نخاعي الشوكي»، ويضيف: عدت إلى بيتي، وقرر أهلي تزويجي، فتزوجت في عام 1992، وعملت في بيع الدخان والأشياء البسيطة في كشك متواضع، وأحياناً على عربة متنقلة أقودها وأنا أجلس على كرسيّ متحرك، وقد منّ الله عليَّ بثمانية أولاد، خمسة ذكور، وثلاث بنات، وظننت أن هذه المعاناة التي سبّبها لي المحتل قد انتهت، وأن ما أصابني من شلل وأمراض في الجهاز العصبي، والضغط والحالة النفسيّة سيتوقف، وخلال الثلاثين السنة الفائتة، ومن خلال ما كان يشاهد أبنائي معاناتي وأوجاعي وقلة حيلتي أمام حاجاتهم وطلباتهم، وهم يقارنون أيضاً بين آباء أصدقائهم وزملائهم وحالي، فقد تراكم الحقد في نفوسهم على هذا المحتل، لكنني لم أكن أتوقع أن أخسر أبنائي الأربعة نتيجة هذه المعركة المتواصلة، وتتدهور حالتي الصحية بهذا الشكل، حيث تَرْحَلُ إلى جسمي الأمراض والأوجاع مع كل تفاعل من حدث وصدمة وتقدم في السن.

استشهاد سعد ويوسف
يقول ناصر: سعد الابن الثاني لي من الذكور، كبر وأصبح عمره 21 عاماً، ابتاع لنفسه دراجة نارية ليعمل عليها «دليفري» لمساعدتي في نفقات الأسرة الكبيرة، توقف عن الكلام قليلاً، وهو يبلع غصة خرجت من قلبه، وتابع: في 12 تموز عام 2017، كان يقوم بإرسال طلب إلى المخيم في ساعات المساء، وفي تلك اللحظة اجتاحت قوات الاحتلال المخيّم، فجرت مواجهات بين الشبان والقوات المتوغلة، كان سعد يقود دراجته عائداً إلى البيت، فقام المحتل بإطلاق النار على ابني سعد من مسافة قريبة بشكل متعمّد، فارتقى شهيداً. كانت صدمة قاسية عليّ وعلى الأسرة، بل قلب استشهاده وضع الأسرة رأساً على عقب، فقد نكأت شهادته جرحاً لا زال يسكن فيّ، وعمّقت أوجاعاً لم تغادرني منذ عقود، وكان إخوته أكثر من تملّكهم الحزن والغضب، ما حدا بيوسف إلى حمل السلاح، والانتماء إلى التشكيلات المقاومة في جنين والمخيَّم. مرت السنوات الخمس بعد سعد، أمضيناها نمسك بقلوبنا خوفاً من المجهول، لتأتي الصدمة الثانية، حيث اغتيل يوسف مع مجموعة من المقاومين في حي الدبوس في المدينة بتاريخ 17 حزيران عام 2022، فتعاظم جبل الأحزان، ما دفع ابني الأكبر عنان والأصغر أسامة إلى الخروج الدائم لمواجهة المحتل بالرغم من أن عنان متزوج ويعيل أسرته، ثلاثة أطفال وزوجة.

اعتقال عنان وأسامة
ويضيف ناصر، أن الاحتلال جاء واعتقل عنان، وقام بتخريب البيت ومحتوياته بعنف وروَّع الأطفال والنساء، وما زال عنان قيد الاعتقال الإداري في سجن النقب منذ عام وأربعة أشهر، وهو مصاب بالأمراض منها العصبية والنفسية التي ظهرت عنده بعد استشهاد شقيقيه. أما أسامة فهو معتقل منذ سبعة أشهر في سجن جلبوع، ولم يقم أحد من الأسرة بزيارة أيٍّ منهما حتى قبل الحرب، لأن سلطات الاحتلال لم تمنحنا أي تصريح لزيارتهما. وتعيش أسرة ابني عنان في بيت قديم شديد الرطوبة آيل للسقوط، لا يصلح للسكن الآدمي. كما أن أخي الأكبر الشيخ عبد الرحمن (68 عاماً)، الذي فقد ابنه شهيداً أيضاً قبل أكثر من عام، معتقل ويقضي حكماً بالسجن 30 عاماً، وحالته الصحية سيئة، وقد أُفرج عنه في صفقة «وفاء الأحرار» في عام 2011، وأعيد اعتقاله في عام 2014، للتهمة نفسها التي اعتُقل بسببها قبل الصفقة.

ثابتون
ينهي ناصر كلامه بتنهيدة عميقة موجعة، ويقول: رغم إصابتي بالرصاصة التي أقعدتني منذ 35 عاماً، وجلبت لي الأمراض والأوجاع والمعاناة، وفقداني لنجلَيَّ الشهيدين سعد ويوسف، وغياب نجليَّ عنان وأسامة في غياهب السجون، وبقاء طفلي الوحيد الآن أحمد الذي أشعر أنّي أسلبه طفولته بسبب بقائه معظم الوقت إلى جانبي، يساعدني في قضاء حوائجي وحوائج بيت أخيه عنان، وخوفي عليه من الفقدان على يد الاحتلال، والأمراض الكثيرة التي تتسلل إلى جسدي من ضغط وأعصاب وسكري وضعف في البصر، والتي تكلفني أدويتها ما بين 400 و450 دولاراً شهرياً، إلا أننا ما زلنا وسنظل ثابتين في أرضنا.
وينهي ناصر كلامه: أقول لتلك الرصاصة التي تسكن نخاعي الشوكي إنك لن تهزميني، ولن يهزمنا المحتل الذي أسكنك جسدي، مهما نخرتِ فيه، ومهما أخذتِ من حولي أحبتي، فاليقين بالله أن النصر قادم بعون الله تعالى، وأن ساعة نصر تساوي كل هذه الجبال من المعاناة والأوجاع والأسقام مهما طال الزمن.