تعرِّف بعض المراجع الإنسان العربي على أنه شخص لغته عربية، ويعيش في بلد ناطق بالعربية، وله نفس تطلّعات الشعوب الناطقة بالعربية. هذا التعريف قاصر في ظنّي، لأنه أغفل الإحاطة بكثير من لوازم الانتماء إلى شيء مشترك، وفي مقدمتها وحدة المسار والمصير.العرب تاريخيًّا، أحد أكثر الأمم والأعراق التي تُعنى بمكارم الأخلاق وفضائل الأعمال. ويزخر التاريخ العربي، في مرحلتَي الجاهلية والإسلام، بالكثير من الشواهد على فطرة الفضيلة، التي يشبُّ عليها الفرد، ويجعل منها نهجًا وسيرة. من هنا، لم تكن العروبة يومًا، مجرد قومية فحسب، بل إن للإنسان العربي، سمات تميّزه عن غيره، لولاها لكان رقمًا في صفحات الماضي الكثيرة، التي طواها الزمن.
‎ليست هذه المقدمة عرضًا لصفّ الكلام وتنميق الجُمل، بل إنّ الهدف من استدعاء الأمس إسقاطه على الحاضر، في معرض الحديث عن الوضع المأسوي في قطاع غزة. لعلّ العربي يهتدي إلى أصله السلوكي، وينهض من سباته المخجل، ليتحمل مسؤوليته الأخلاقية، أمام مَقتلة ممنهجة، وتدمير منظّم، وتجويع مدروس، يُمارس ضد الشعب الفلسطيني.
‎العدوان المتواصل على القطاع، منذ نحو خمسة أشهر، أفرغ العربية من مضمونها الوظيفي، بعدما أظهرها بصورة العاجز والخانع والميت سريريًّا. العربيّ الذي نعرفه من كتب التاريخ ومرويّات الأوّلين، مجبولٌ بالقيم والغيرة والهمّة، ويفعل حتى دون أن يقول. لذا، لا يتصوّر عقل، أنّ العرب الأقحاح، كانوا ليرضوا بأن يُباد الناس في غزة، قتلًا وجوعًا وبردًا وقهرًا. إنّ ذلك بالتأكيد، لسبَّة على العرب قبيحة.
تؤكد وكالة الأونروا، أن 750 ألف شخص في قطاع غزة يواجهون جوعًا كارثيًا، فيما يشير تقرير للأمم المتحدة، يعرف بالتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، إلى أن جميع سكان قطاع غزة يعانون من أزمة أو مستويات أسوأ من الانعدام الحادّ للأمن الغذائي، قسمٌ كبير منهم استنفدوا إمداداتهم الغذائية وقدراتهم على التكيف، ويواجهون جوعًا حادًّا.
أيضًا المقرر الأممي المعنيّ بالحق في الغذاء، مايكل فخري، ومنظمة «هيومن رايتس ووتش»، اتّهما إسرائيل باستخدام الجوع سلاحًا لقتل المدنيين في غزة، بالتوازي مع تحذير المكتب الإعلامي الحكومي في القطاع مرارًا، من تعمُّق المجاعة التي قد تتحول إلى كارثة إنسانية عالمية، يروح ضحيتها مئات آلاف الأطفال والنساء.
‎بالعودة إلى التاريخ، فقد كانت مَنقصة عند العرب، أن يجوع العربي وابن قومه يعلم ويرضى ويسكت، دون أن يبذل من نفسه وماله لسدّ حاجة الجائع. وقد قيل في ذلك الكثير من أبيات الهجاء، التي حطّت من قيمة قبائل ورجال، وإنْ كان حديثًا يُفترى. ويُروى أن من أهجى أبيات الشعر، على سبيل المثال لا الحصر، قولُ الأعشى في علقمة بن علاثة: «تَبيتون في المشتى ملاءً بطونُكم.. وجاراتِكم غَرثى يبِتن خمائصا»
«يراقبنَ من جوعٍ خلال مخافةٍ .. نجوم السماء العاتِمات الغوامِصا».

‎وفي البيتين مقارنة نقدية، بين أناس يقعدون في الشتاء، ممتلئي البطون من تخمة الطعام، بينما ينام جيرانهم جوعى، قد أضمَرت قلّة الأكل بطونهم. الشاهدُ أنّ علقمة لمّا سمع البيت، بكى لشدَّته عليه، وقال: «أنحن نفعل ذلك بجاراتنا؟»، في إشارة إلى استنكاره القول، وتبرّئه من الفعل، أو من الرضا عنه.

ومما يُندب قوله في هذا المقام من البيان، أنّ رجلًا من بني مازن، وفد على النعمان بن المنذر، فقال له النعمان: «كيف مخارق بن شهاب فيكم، قال: سيّد كريم، وحسبك من رجل يمدح تيسه، ويهجو ابن عمه بقوله: «ترى ضيفَها فيها يَبيت بغِبطة .. وجار ابن قيسٍ جائعٌ يتحوَّب». وهنا نرى أيضاً، أن الجوع هو سبب الذم، ومدار النقد.

كما أنّ ما يُروى ولا يُطوى من تاريخ العرب، تعاهد أئمة الكفر في مكة على مقاطعة بني هاشم وبني المطلب، اقتصاديًا واجتماعيًا، لأنهم آزروا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكتابتُهم صحيفة بذلك علّقوها على الكعبة. حتى قيَّض الله عزّ وجلّ من مشركي مكة أنفسهم، من مشى في نقض تلك الصحيفة، وفي مقدمتهم هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي، ورهط من قريش.

ما يخدم مادّتنا في القصة، أن زهير بن أبي أمية غدا بعد زمن، وقال في أهل مكة، وفيهم سادة قريش، قولته الشهيرة: «يا أهل مكة، أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى، لا يباع ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تُشقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة».

‎وهناك الكثير الوفير مما تفيض به بطون أمهات الكتب، من أخلاق العرب، التي اكتشفنا بعد الحرب على غزة أنها باتت عزيزة نادرة شحيحةً هذه الأيام، وعلى رأسها: إجارة المتسجير، وردّ الظلم، وإغاثة الملهوف. والعرب كما لا يخفى على أحد، كانوا يبذلون المُهج والأرواح، ويشنُّون الحروب والغارات، انتصارًا لمن استجار، وفي هذا يقول الشاعر في بني تميم: «لا يَسألونَ أخاهُم حينَ يَندُبُهم... في النائباتِ على ما قالَ بُرهانا».

‎ورحم الله مخارق بن شهاب سالف الذكر، الذي بكى يوماً حتى ابتلّت لحيته، فقالت له ابنته: «ما يبكيك يا أبتاه، فقال: وكيف لا أبكي واستغاثني شاعر من شعراء العرب فلَم أغثه، والله لئن هجاني ليفضحنَّني قوله، ولئن كفّ عني ليقتلنَّني شُكره».

وفي ذلك كله، دلالة لا تقبل التأويل، على أن العرب لا ترتضي الظلم أبدًا، وتُبارز الظالم بالمحاربة. وعلى هذا، فإن التساؤل الأبرز منذ أشهر، هل يوجد على ظهر الأرض ظلم وقهر وعدوان، أشدُّ ممّا يحصل في غزة! وهل هناك مَن هو أحقُّ بالغوث من أهل القطاع المحاصر. بالتأكيد لا، لكن للأسف ليس هناك من يقوم مقام السابقين أهل النصرة، من ذوي المروءة والعزة والكبرياء.

أين نحن من زمن، صاحت فيه امرأة حُرَّة: «وامعتصماه»، فأبى المعتصم خليفة المسلمين وقتذاك، إلا أن يأتيَها بنفسه ملبِّيًا وناصرًا، على رأس جيش عظيم، فحرَّرها وأكرمَها واقتصَّ لها ممَّن اعتدى عليها، حتى قال الشاعر أبو تمّام، معتزًّا بذلك المشهد: «السَّيفُ أصْدقُ إنباءً مِن الكتبِ .. في حدِّه الحدُّ بين الجدِّ واللعب».

‎مَن يستطلع الماضي العربي العزيز، لا يسَعه إلّا أن يأسَف على زمن صرنا إليه، يستجير فيه أهالي قطاع غزة بأهل لسانِهم، فلا يجدون ناصراً ينصرهم، أو كريماً يلبّيهم، أو عزيزاً يقتصُّ لهم. برأيي، مَن لا يعمل بمقتضى العروبة، لا ينبغي أن يسمّى عربياً، ولو كان عربيَّ الاسم والنسب، لأنّ من لوازم العربي، قطعًا، أن يكون غيورًا على أبناء جلدته، ولو كلّفه ذلك كلَّ ما يملك، إذ الحياة لا تساوي شيئًا إن نُزعت منها الكرامة.

وصدق الشاعر حين قال، - وهذا القول ينطبق على عرب اليوم حكامًا ومحكومين -: «وظلم ذوي القربى أشدُّ مَضاضةً .. على المرء من وقع الحُسام المهنَّدِ».