لم تكن الهجمة الأخيرة لدول الغرب الإمبريالي، التي تُعتبر من أهم الممولين لوكالات الأمم المتحدة بشكل عام، ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بشكل خاص، استثناء أو حدثاً طارئاً في إطار تعاطي هذه الدول مع المنظمة الأممية أو المواثيق الدولية. فهي ما انفكت تمارس ضغوطها عليها تحت ذرائع مختلفة، مرة بمطالبتها بتعديل المناهج الدراسية، ومرة بمنع النشيد الوطني الفلسطيني، أو خريطة فلسطين الكاملة، ومرات بادعاء أنّ «الأونروا» تساهم في استمرار مشكلة اللاجئين، ولا تعمل على حلها، وكأنّ المطلوب من هذه الوكالة إيجاد حلول للقضية الفلسطينية. لعل أبرز تلك المحاولات وأكثرها خطورة، تمثّل بإعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وقف تمويل «الأونروا» صيف عام 2018، في سياق تفاهم أميركي- إسرائيلي يهدف إلى حسم قضايا الحل النهائي من جانب واحد، وتصفية القضية الفلسطينية كلياً.
تلك المحاولات من شأنها أن تحوّل الوكالة من منظمة دولية، وظيفتها الأساسية إغاثة وتشغيل اللاجئين، إلى أداة ضغط بيد الغرب لإرغام الفلسطينيين على القبول بالمزيد من التنازلات، والخضوع الكامل، والإقرار بالسياسات التوسعية والاستيطانية للاحتلال، والدعوة إلى نبذ المقاومة والامتناع عن مواجهة هذه السياسات بأيّ طريقة، حتى لو كانت عبر اللجوء إلى القانون الدولي.
وفي حقيقة الأمر، فإنّ تلك السياسات ليست محصورة بـ «الأونروا» والمنظمات الدولية، بل إنّها تطاول كذلك السلطة الفلسطينية وكلّ الأنظمة العربية، وهي إحدى أساسيات الهيمنة الغربية القائمة على نظرية المركز والأطرف، لتظل الأطراف تابعة للمركز وقابعة تحت هيمنته. هذا المركز ممثَّلاً بالغرب المتفوق الذي يتبنى استراتيجيات تحمل أفكاراً عنصرية لتبرير استغلال الأطراف الأدنى مرتبة والأقل شأناً.
ولعل أبرز تجليات هذه العنصرية يأتي في السياق الفلسطيني انطلاقاً من نظرية «تفوق العرق اليهودي» ومقولة «شعب الله المختار» التي تأسست عليها الأيديولوجية الصهيونية القائمة على ممارسات الاحتلال الهمجية بحقّ الشعب الفلسطيني منذ أكثر من مئة عام. وقد دفعت تلك الممارسات، في سبعينيات القرن الماضي، الأمم المتحدة إلى تبني قرار يساوي الصهيونية بالعنصرية، لتضطر إلى التراجع عنه بعد أعوام بضغوط من الولايات المتحدة وحلفائها.
إنّ التوقيت اللاأخلاقي للهجمة الأخيرة، وحملة قطع-تعليق التمويل عن «الأونروا» في ظل حرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة، يشير إلى صلة تلك الحملة بإصدار محكمة العدل الدولية لقرارت عدّتها الإدارة الأميركية وحكومة الاحتلال مجحفة ومتحيّزة للفلسطينيين، رغم أنّها لم تتطرق إلى وقف حملة الإبادة، إلا أنها على الأقل أحدثت أثراً على مستوى الرواية وتثبيت الحقّ في الادعاء، وإمكانية جرّ حكومة الاحتلال ومجرمي الحرب الصهاينة إلى المحاكم الدولية. هذا رغم مواقف بعض الدول الغربية، مثل ألمانيا التي أبدت استعدادها للدفاع عن كيان الاحتلال، والإدارة الأميركية التي صرّحت أنّه «ليست هناك دلائل تشير إلى أنّ ما يحدث في غزة هو جريمة إبادة جماعية».

عقاب الفلسطيني والغرب المتواطئ
لقد بات واضحاً أنّ الفلسطينيين يواجهون عقاباً جماعياً من قِبل الغرب، لتجرّؤ مقاومتهم على كسر هيبة كيان الاحتلال في عملية «طوفان الأقصى». فبات سلاح التجويع وقطع الإمدادات عن شعب تُشن عليه حرب إبادة وسيلة الانتقام منه في غزة الآن، ومن الفلسطينيين عموماً حين يحين الوقت. كما يظهر أنّ نجاح جنوب أفريقيا في جرّ حكومة مجرمي الحرب في تل أبيب، للمثول أمام المحاكم الدولية قد أثار حفيظة حلفائهم، فبادروا بالرد، ولا سيما أنّ مرافعات المحامين استندت إلى العديد من شهادات وتوثيق «الأونروا» لاستهداف مقراتها ومراكزها الطبية ومدارسها ومراكز الإيواء التابعة لها، والتي تؤوي أكثر من مليون نازح دُمرت منازلهم أو أُجبروا على تركها خلال الإبادة التي تمارس بحقّهم، هذا إضافة إلى قطع المياه الصالحة للشرب والغذاء والمحروقات والخدمات والدواء والمستلزمات الطبية والاستهداف الممنهج للبنى التحتية، كما كل مظاهر الحياة في القطاع.
إن الأرقام التي يمكن الاستشهاد بها هنا صادمة ومخيفة وتدعو للغثيان. كما أنّها تقدّم مؤشرات واضحة على عقلية حكومة الاحتلال والغرب عموماً، فهي لا تعترف بأنّ للفلسطينيين حقوقهم المساوية لنظرائهم في الغرب، فضلاً عن أنها تنفي حقهم في مقاومة الاحتلال، والقتال في سبيل نيلهم الحرية.
إنّ نظرة الغرب إلى «الأونروا» كنظرته إلى القانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان والأعراف والمواثيق الدولية، أي أنها تنفع في مناسبات وحالات معينة دون غيرها، خدمة للمصالح طبعاً. وهذا ما حدث بالضبط عند انسحاب الولايات المتحدة من المجلس الدولي لحقوق الإنسان أو من اتفاقية البيئة أو غيرها أو في استخدامها لـ «الفيتو» في مجلس الأمن لإجهاض أي قرار لا يتوافق مع سياساتها، كمشاريع القرار في مجلس الأمن، الداعية إلى وقف إطلاق النار في غزة، الأمر الذي دفع العديد من الدول والمراقبين إلى الانتقاد الشديد لازدواجية المعايير في تطبيق القوانين الدولية في ما يتعلق بالقضية الفسطينية.

عند توقيع اتفاق أوسلو 1993، مورست مختلف الضغوط على «الأونروا» لتغيير مناهجها التعليمية لتتوافق مع رؤية الغرب لحل القضية الفلسطينية، عبر التوطين للاجئين أو دمجهم اقتصادياً ومجتمعياً، واستدامة الاحتلال، والتوسع في المشروع الاستيطاني الصهيوني في الأراضي المحتلة، وعزل الفلسطينيين في كانتونات ضمن تجمعات جغرافية مقطّعة الأوصال.
من هنا، يمكننا فهم العلاقة الملتبسة والحذرة بين «الأونروا» والشعب الفلسطيني بمختلف قواه الوطنية والشعبية. فلطالما تندّر الفلسطينيون على الوكالة بتلقيبها بـ«زوجة الأب». فعندما تتعرض الوكالة للضغوط أو لمحاولات التصفية من قِبل الغرب، يتضامن الشعب الفلسطيني معها باعتبارها شاهداً على نكبته، وأداة من أدوات صمود المجتمع الفلسطيني من خلال الخدمات التي تقدّمها (الصحة، التعليم والإغاثة). كما أنها جزء من الذاكرة الفلسطينية، وحامل لهذه الذاكرة، فالـ «الأونروا» تمتلك أرشيف اللاجئين الفلسطينيين وسجلّاتهم المدنية، وأرشيفاً هاماً جداً من الذاكرة البصرية والشفهية للشعب الفلسطيني اللاجئ.
والأهم هو أنّه، بعد محاولات الشطب والإلغاء التي تتعرض لها الوكالة منذ عقود، باتت تُعتبر من قِبل الشعب الفلسطيني نوعاً من اعتراف المجتمع الدولي بقضية اللاجئين، على اعتبار أنّ مبرر قيامها ووجودها هو اللجوء الفلسطيني الناجم عن نكبة عام 1948. و قد عزز هذه القناعة أنّ «الأونروا» هي الوكالة الوحيدة في الأمم المتحدة التي تختص بشعب معين دون باقي الشعوب.
كل ما سبق لا يعني بالضرورة أنّ العلاقة بين «الأونروا» والفلسطينيين كانت دوماً مستقرة أو مثالية. فقد احتجّ الفلسطينيون على العديد من المحاولات التي قامت بها الدول الغربية، الممول الأساسي للوكالة، لتعديل المناهج، وتقليص الخدمات أو إيقافها، تحت ذرائع التمويل والإرهاق الذي أصاب الممولين منذ نحو 76 عاماً إلى يومنا هذا.
كما رفض شعبنا وقواه الوطنية الشخصيات المشبوهة التي عملت في الوكالة، وآخرها المدير السابق لـ«الأونروا» في غزة، ماتياس شمالي، المنحاز إلى «إسرائيل» فقد تحدث في أكثر من مناسبة عن ذكاء قنابل الاحتلال ودقتها في تجنب المدنيين، ما دفع إلى حراكات جماهيرية ووطنية على مستوى غزة، أدت في النهاية إلى إنهاء مهمته واستبداله بمدير «الأونروا» الحالي توماس وايت.
أيضاً في سوريا، لم تقم «الأونروا» بمهامها على أحسن وجه، وانسحبت من المشهد، فقد خرجت من مخيّم اليرموك عند دخول المسلحين إليه، وعلّقت خدماتها فيه، بينما كان الناس في أمسّ الحاجة إليها هناك، وفعلت الأمر عينه في مخيّمات أخرى مثل درعا وخان الشيح والسبينة وغيرها. وفي الإبادة الجارية في غزة، انسحبت أيضاً من شمال القطاع، تماشياً مع سياسات الاحتلال بإفراغ الشمال، رغم بقاء مئات الآلاف من المدنيين هناك حتى كتابة هذه السطور.
قد لا تبدو العلاقة بين الفلسطينيين ووكالة الأونروا واضحة، إلا أنني -وقد حصلت على التعليم الجيد في مدارس الوكالة في سوريا والخدمات الطبية الأساسية من لقاح وعلاج ورعاية صحية كما كل اللاجئين الفلسطينيين- أجد أنّ هذه الوكالة هي أحد أعمدة الصمود الأساسية للشعب الفلسطيني، نظراً إلى ضرورة وأهمية الخدمات التي تقدّمها للاجئين والمخيّمات الفلسطينية.

«نختلف معها ولا نختلف عليها»
أستطيع القول إنّ هذه المقولة هي الدليل المرشد في العلاقة بين «الأونروا» والشعب الفلسطيني في كل فئاته، لكن يبقى السؤال الأساسي: هل ستُجدي نفعاً تلك المحاولات المتعجرفة وأساليب الابتزاز الرخيصة، بفرض العقاب الجماعي على شعبنا الفلسطيني في غزة، وعلى اللاجئين الفلسطينيين عموماً، من أجل التخلي عن المطالبة والمقاومة لاستعادة الحقوق وإقامة العدالة وتحقيق العودة وتقرير المصير؟
إن كان الاحتلال قد فشل في تحقيق ذلك على الرغم من المجازر التي ارتكبها على مدى نحو خمسة أشهر، بالدعم الغربي غير المحدود من الغرب، في حرب الإبادة التي يمارسها حتى هذه اللحظة. فهل سيتمكن العدو من تحقيق انتصار، بوقف «الأونروا» أو تعطيلها في أحد أقاليم عملها؟
هذه محاولات اليائس والفاقد للأمل، لذا فهو يستمر في جريمته بحقّ شعبنا ومقاومته، وهذا الواقع أثبت عدم جدواه من كل النواحي.
*ناشط فلسطيني