ليس المهم أن تكون حكومة «تكنوقراط»، وهي الأسوأ في ظل الوضع القائم في فلسطين، أو حكومة لون واحد «فتحاوية» أو «حمساوية»، ولا حكومة «وحدة فصائلية» من جميع الفصائل، ولا حتى حكومة «وحدة وطنية» مختلطة من الفصائل وسياسيين واقتصاديين ومثقفين من خارج الفصائل. العلّة في أن فلسطين تحت الاحتلال، من نهرها إلى بحرها، وبالتالي أي حكومة سوف تكون محكومة بقرارات الاحتلال، وبتفاؤل كبير، بحدود رسمها اتفاق أوسلو، وهو أصل العلّة.المُفترض أن تُشكل الحكومة 19 بعد استقالة حكومة عضو اللجنة المركزية في حركة فتح محمد اشتية، وكان رقمها 18 منذ تأسيس سلطة الحكم الذاتي في سنة 1994، في إثر اتفاق غزة – أريحا المُنبثق عن اتفاق أوسلو الموَّقع في سنة 1993. ومثلما يُسرّب فإن الأرجح أن تيشكل الحكومة القادمة (التكنوقراطية) رئيس صندوق الاستثمار الفلسطيني محمد مصطفى، وهو خيار الرئيس محمود عباس، والأقل احتمالاً أن يكون عضو اللجنة المركزية في فتح المجمّدة عضويته، ناصر القدوة الذي يُسرّب أنه خيار الفصائل الفلسطينية ومن بينها حماس.
بداية لا بد من تسجيل أن بدعة «التكنوقراط» جاءت نتيجة ضغط غربي على قيادة السلطة الفلسطينية، تحت ذريعة استشراء الفساد في الإدارة الفلسطينية. وكانت الحكومات الفلسطينية حتى الخامسة منها، عبارة عن إدارة تابعة للرئاسة بقيادة ياسر عرفات، تتكون من قياديين في حركة فتح وفصائل فلسطينية وشخصيات وطنية، وبدأ التغيير بعد عدوان «السور الواقي» الذي شنته إسرائيل على الضفة الغربية وقطاع غزة في سنة 2002، إذ تشكلت أول حكومة (هي السادسة) برئاسة عضو اللجنة المركزية لحركة فتح محمود عباس (الرئيس الفلسطيني الحالي)، وعضوية قياديين فلسطينيين وشخصيات وطنية، مع تسجيل أول ظهور لسلام فياض، الخبير الاقتصادي، والموظف الرفيع في البنك الدولي، كوزير للمالية. وفي هذه الحكومة فرض فيها ممولو السلطة محمود عباس على عرفات، لم تدم أكثر من 6 أشهر (30/4/2003 – 7/10/2003)، وانتهت باستقالة عباس بسبب تضارب الصلاحيات، وخصوصاً أن عرفات أراد مراعاة مطالب الممولين (والولايات المتحدة تحديداً) بفصل الحكومة عن الرئاسة (شكلياً)، بينما أراد عباس أن يمتلك صلاحيات واسعة.
بدءاً بالسادسة، إذاً، باتت الحكومات منفصلة شكلياً عن الرئاسة، وما تلاها من حكومات كانت بمعظمها مرتبطة عملياً بقرارات رئيس السلطة وإرادته. وهكذا جاءت الحكومات السابعة والثامنة والتاسعة (حضر فياض فيها وزيراً للمالية مع وزارات أُخرى) التي ترأسها عضو اللجنة المركزية لفتح واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير أحمد قريع (أبو علاء) الذي شارك في مفاوضات «أوسلو». علماً أنه حتى الأشهر الأخيرة من حياة الحكومة الثامنة كان عرفات لا يزال حيّاً، وقد توفي في 11 تشرين الأول 2004، وسط تأكيدات فلسطينية بأنه مات شهيداً بعد حقنه بالسم من قبل أحد عملاء المخابرات الإسرائيلية. أما بقية أشهر الحكومة الثامنة وبعدها الحكومة التاسعة، فكانت خلال رئاسة محمود عباس.
انكسرت سلسلة الحكومات التي تقودها الرئاسة عملياً، مع الحكومة العاشرة التي نتجت عن انتخابات تشريعية فازت فيها حماس بغالبية كبرى في المجلس التشريعي (البرلمان)، والتي ترأسها الرئيس الحالي للحركة إسماعيل هنية وعيّن وزرائها وغالبيتهم من حماس أو من المؤيدين للحركة، وسط مقاطعة غربية كاملة، وحكمت مدة سنة واحدة. الحكومة الحادية عشرة (حكومة الوحدة الوطنية) التي تم تشكيلها، بالتعاون مع عباس، من ممثلين عن معظم الفصائل، وشخصيات وطنية، مع تسجيل ظهور سلام فيّاض مجدداً. لكن هذه الحكومة حكمت 3 أشهر فقط، وأقالها عباس. لتبدأ مرحلة الحكومتين: واحدة في الضفة وثانية في غزة.
حكومات «التكنوقراط» الصرفة، يمكن توقيت حضورها اعتباراً من الثانية عشرة التي ترأسها سلام فيّاض، وعلى التوالي أيضاً الثالثة عشرة والرابعة عشرة التي قدم استقالته من رئاستها بعد عام من تشكيلها، ثم تليها الحكومات 15 و16 و17 برئاسة الأكاديمي رامي الحمد الله، حتى الحكومة 18 التي ترأسها عضو اللجنة المركزية لفتح محمد اشتية، ومعظم وزرائها هم من «التكنوقراط».
لكن السؤال الدائم الحضور، منذ اللبنة الأولى لـ «أوسلو» وتبعاته، ماذا أنتج الواقع الذي خلقه هذا الاتفاق، بغضّ النظر عن نيات القيادة الفلسطينية التي سارت به؟
ولأن الأمور تُقاس بنتائجها، وليس بنيات صانعيها، فلنلق نظرة على نتائج أوسلو وما أفرزته من هياكل إدارية، فشلت في تطوير ذاتها نحو إدارة المواجهة مع العدو، وربما المثل الأبرز، حجم الاستيطان الذي تضاعف أكثر من 6 مرّات منذ اتفاق أوسلو.
فقبل الاتفاق، كان عدد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس المحتلة أقل من 150 ألفاً، يقطنون في 144 مستوطنة وبؤرة استيطانية، ووفقاً لتقرير أصدره المكتب الوطني للدفاع عن الأرض، التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، فإن عدد المستوطنين «في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية تجاوز 750 ألف مستوطن، يعيشون في 158 مستوطنة، وفي بعض التقديرات 176 مستوطنة بعد الأخذ في الاعتبار قيام حكومة الاحتلال [في سنة 2022] بتبييض عدد من البؤر الاستيطانية وإضفاء الشرعية الاحتلالية عليها، وفي أكثر من 200 بؤرة استيطانية ومزرعة رعوية يسكنها نحو 25 ألف مستوطن». (مديحة الأعرج/ إعداد، «حصاد الاستيطان وممارسات منظمات الإرهاب اليهودي في المستوطنات في العام 2023»، «المكتب الوطني للدفاع عن الأرض»، 30/12/2023، في الرابط الإلكتروني.

أما على المستوى السياسي، فحدّث ولا حرج. لقد استبدلت القيادة التي أنتجت «أوسلو»، برنامج الحد الأدنى للتوافق الوطني القائم على فرض إقامة دولة فلسطينية عبر المقاومة بجميع الأشكال للاحتلال، على الرغم من كل ما شاب التجربة من مشكلات فصائلية ضيّقة، بعملية سياسية بدأت ببدعة هي «أوسلو»، قوامها اعتراف بإسرائيل مقابل اعتراف بشرعية منظمة!! وشارفت على النهاية بفقدان أي إمكانية جغرافية أو سياسية لقيام الدولة الموعودة.
اقتصادياً، عملت إسرائيل منذ احتلالها باقي الأراضي الفلسطينية في سنة 1967، على إلحاق الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي، عبر ضرب القطاعات المكوّنة للاقتصاد القائم في الضفة والقطاع، وتحويل الفلسطينيين إلى عمالة رخيصة في إسرائيل. وحتى ما قبل عملية «طوفان الأقصى» في 7 تشرين الأول 2023، كان الوضع الاقتصادي على النحو التالي:
في قطاع غزة كان «معدل البطالة بنسبة 45%، ويصل إلى 60% بين الشباب. بالإضافة إلى ذلك، يتلقى 83% من العمال في غزة أجراً أقل من الحد الأدنى. ونتيجة لذلك، يعيش أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر. وكان أكثر من ثلثي الأسر في هذا الشريط الساحلي يعاني بالفعل انعدام الأمن الغذائي.» وفي الضفة الغربية كانت نسبة البطالة 13%، مع «انعدام الأمن الغذائي عند مستوى 23%. ولكن اقتصادها، الذي يختنق بسبب نقاط التفتيش والقوانين المتعددة، لا يزال يعتمد تماماً على إسرائيل التي تستأثر بـ 70% إلى 80% من وارداتها وصادراتها». («هل كان الاقتصاد الفلسطيني بخير قبل طوفان الأقصى؟»، موقع «الجزيرة»، 19/10/2023، في الرابط الإلكتروني.
لقد أثبتت التجربة منذ تأسيس السلطة حتى اليوم، أن لا حاجة في فلسطين إلى شكليات دولة من دون وجود دولة؛ لا هياكل ولا قرارات حرّة ولا سيادة!! وأن الحاجة الوحيدة هي بفتح جميع الدفاتر، بعد تشكيل قيادة فلسطينية موحّدة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، مُعدّلة وفق تبدل النسيج السياسي الفلسطيني، واستراتيجيتها مبتكرة وفق التجربة الفلسطينية؛ انطلاقاً من تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية: قديمها وحديثها، ومن فشل الحل السياسي مع عدو هدفه السياسي تصفية كل شيء له صلة بكلمة فلسطين، وإلى مقاومة مستمرة منذ ما قبل النكبة، لكن لا يدرس القائمون عليها تجارب سابقة، إلا من منظارهم الخاص، من دون التعمّق في همجية عدو تقضي أيديولوجيته بهدر دم من يقف في درب مشاريعه، وأول هؤلاء فلسطين، وكل ما تحتويه الكلمة من أرض وشعب وتاريخ وثقافة؛ هذا العدو حدّد هدفه مداورة في البدايات، واليوم يُعلنه من دون قفازات حريرية: بقاء إسرائيل يعني تصفية فلسطين والفلسطينيين.
لم تفهم القيادة الفلسطينية الواقع عندما وافقت على اتفاق أوسلو، وبغضّ النظر عن حسن نيّاتها، وقراءتها الخاطئة للقاعدة الثورية والجغرافية الثورية، واستثمارها الخاطئ لانتفاضة الحجارة التي أعادت لفلسطين وهجها بإرادة شعبها للانعتاق من الاستعمار والتحرر، وبعظام أطفالها التي أمر إسحق رابين جنوده بسحقها.
إذاً، أصل العلّة هذا الاستثمار الذي جاء باتفاق أوسلو، وثمرته السيئة: اعتراف فلسطيني بإسرائيل في مقابل اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير ممثلاً للشعب الفلسطيني، وليس، على الأقل، اعترافاً متوازناً، أي دولة مقابل دولة! وما تبقّى مجرد تفاصيل.
هكذا شبكت إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة، عبر تخلّ عربي عن الفلسطينيين منذ مؤتمر مدريد (1991)، خيوط سلطة تدير حياة الفلسطينيين في الضفة وغزة، مع بقاء الاحتلال من دون أن يدفع فاتورة احتلاله؛ فبات احتلالاً بصيغة: ربح – ربح؛ هذه المُعادلة التي تمثل للفلسطينيين خسارة – خسارة، هي التي يجب أن تنتهي، ولم يكن ولن يكون الحل بتغيير أو تعديل في حكومات محكومة، تأسيساً على «أوسلو» وما جاء بعده، بإرادة الاحتلال، إنما العودة إلى المشروع الوطني المقاوم، واحتواء منظمة التحرير الفلسطينية جميع تلاوين السياسة الفلسطينية، بعيداً عن بدعة الكوتا الفصائلية التي حكمت التجربة الإدارية للمنظمة، والاعتماد على انتخابات حرّة، حيثما أمكن ذلك.