اجتمعت الفصائل الفلسطينية في موسكو مجدداً. لكن هذه المرة، والقضية الفلسطينية تمر بأشد المراحل خطورة ودقة، فالمعركة التي يخوضها الشعب الفلسطيني في وجه المشروع الصهيوني الاستعماري، الذي يحاول تنفيذ مخططاته القديمة في إنهاء وجود الشعب الفلسطيني وإخضاعه وتهجير من تبقّى منه.
خلفية الاجتماع
في أوائل شهر شباط، وصلت إلى قادة الفصائل الفلسطينية بمن فيهم حماس، دعوة مقتضبة من «معهد الاستشراق» في أكاديمية العلوم الروسية التابع لوزارة الخارجية الروسية، ممهورة بتوقيع مدير المعهد السيد فيتالي نعومكن، وتفيد الدعوة بأنها، لعقد اجتماع تحاوري مع الفصائل الفلسطينية تحت عنوان «موسكو 4».
المبادرة الروسية هذه لجمع الفصائل الفلسطينية نحو الخروج برؤية موحّدة، لم تكن الأولى منذ السابع من تشرين الأول في العام الماضي، فلقد سبقتها عدة محاولات، من دول أخرى، باءت جميعها بالفشل. كان في مقدمتها مبادرة أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، الذي التقى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في الدوحة في الشهر الماضي، فاصطدمت مبادرته بتعنّت ورفض قاطع من عباس، الذي اشترط لقدومه إلى الدوحة عدم الاجتماع أو اللقاء بأي من القيادات «الحمساوية»، ثم وضع أيضاً شروطاً تعجيزية، أهمها إلغاء مفاعيل أحداث عام 2006، حين سيطرت حركة حماس على قطاع غزة، مطالباً بالعودة إلى ما قبل هذا التاريخ، الأمر الذي لا يمكن تصوره تماماً، مثل طرحه وتمسكه بالمقاومة السلمية (الشعبية كما يسميها) التي تبدو أمام تفشي الاستيطان وإجرام المستوطنين وجيش الاحتلال بحق الفلسطينيين أمراً خيالياً.
كما كانت هناك أيضاً مبادرة من القيادة السورية قبل نحو شهر من الآن، تمثلت بدعوة من الخارجية السورية، لحوار مماثل، على خلفية ما يمثله الملف الفلسطيني، وكانت هذه الدعوة من الخارجية السورية إلى السفارة الفلسطينية في دمشق، وبالفعل نقلت السفارة الرسالة إلى عباس، وجاء رده باستعداد القيادة الفلسطينية لإرسال وفد من اللجنة المركزية لحركة فتح للقاء بالقيادة السورية، لكن لقاء مع الفصائل الفلسطينية فهذا غير ممكن.
أخيراً أتت الدعوة الروسية موضع حديثنا هنا، والتي يمكن أن نفهم منها أن القيادة الروسية قررت التدخل بكامل ثقلها ووزنها الدولي والإقليمي لكسر الحواجز واختراق حالة الجمود التي سيطرت على القرار والمشروع الفلسطيني. فاستجابت الفصائل الفلسطينية للدعوة، وأدركت خلفياتها على الفور، على الرغم من أنها تأتي من دون سقف للتوقعات، بالنظر إلى العنوان الذي حملته وهو «موسكو 4» لأن ذلك يعني أن الاجتماع المقبل سيكون امتداداً للاجتماعات السابقة، بدل أن يبدأ مثلاً من حيث اتفقت الفصائل في اجتماع القاهرة في عام 2021، حين خلصت إلى مخرجات تمثل طروحات تم القبول بها من الجميع، بمن فيهم «فتح» و«حماس»، إذ اتفقوا على إجراء الانتخابات، وترميم منظمة التحرير، وانضمام الفصائل خارج المنظمة (حماس والجهاد الإسلامي) إليها. نجحوا حينها ربما، لأن الأوضاع الفلسطينية وأوضاع المنطقة لم تكن كما هي عليه اليوم. لكن الحاجة ملحّة الآن، لأنها ربما تكون من الفرص الأخيرة لدى القوى الفلسطينية للخروج بورقة سياسية موحّدة.

ما بعد الدعوة الروسية للحوار:
كما أسلفنا فإن الفصائل الفلسطينية وافقت فوراً على الدعوة الروسية، وباشرت الاتصالات في ما بينها تمهيداً للاجتماع. فهو ورغم كل الملاحظات عليه، فرصة حقيقية بالنظر إلى الوزن الذي تمثله موسكو ليس كدولة عظمى فحسب، ولكن أيضاً بسبب مواقفها الإيجابية تجاه قضية الشعب الفلسطيني والعلاقات الوثيقة التي تربطها مع جميع ممثليه، لكن بقيت الأنظار معلقة باتجاه طريقة استجابة أبي مازن للدعوة، والتي للأسف زادت من انخفاض سقف التوقعات أكثر، عندما قرر أبو مازن التهرب والالتفاف على المبادرة الروسية بعدم الحضور بنفسه، فانتدب ممثلاً عنه القيادي الفتحاوي عزام الأحمد، الذي أصبح اسمه عنواناً لفشل معظم اللقاءات السابقة، نظراً إلى طريقة تعامله الانفعالية مع بقية الفصائل، والتي تفتقر لأدنى متطلبات الجدية والعمل الحقيقي للوصول إلى مخرجات قابلة للتطبيق ترضي الجميع.
لذا كانت رسالة أبو مازن التي فهمها الجميع في أنه لا يزال متمسكاً بالطروحات الخيالية والشروط غير القابلة للتحقيق على الأرض، واضحة للجميع، ودلّتهم أن موقفه المتعنت، يمكن الاستدلال به إلى عدم وجود رغبة حقيقية لديه للخروج بحل فلسطيني شامل.

ماذا يريد أبو مازن؟
إن طريقة إدارة أبي مازن للأمور، أقل ما يقال بشأنها، أنها مثيرة للاستغراب والحيرة. فلو افترضنا على سبيل الجدل، أنه يريد حقاً الاستئثار بالقرار السياسي الفلسطيني، وأنه يصدّق فعلاً أنه يحمل الإجابة على تساؤلات اليوم التالي للحرب، وإذا افترضنا أيضاً أن الفصائل الفلسطينية بما فيها «حماس» قد رضخت حقاً لشروطه وطلباته، فهل السلطة، بشكلها الحالي قادرة على مواجهة التحديات الخطيرة والجسيمة والاحتياجات الهائلة لغزة والضفة بعد الحرب؟
هناك أسئلة كثيرة أيضاً، منها، لماذا يتجاهل أبو مازن أنه مرفوض وبشكل واضح حتى من قبل شركائه الأميركيين ومن قبلهم الإسرائيليون؟ وهم يعلنون مراراً وتكراراً، وبكل وضوح، وبلا تحفظات أن وجوده لمرحلة ما بعد الحرب لم يعد مقبولاً. وفوق ذلك، يتواصل هؤلاء مع القادة الفتحاويين في محاولة لإيجاد البديل، ومع ذلك لا يجد الرجل الثمانيني أي حرج من اللقاء بهم، والاجتماع معهم، وتبادل الصور، والمصافحات، والضحكات العريضة. أيضاً هناك سؤال كبير، لماذا يتعنت رئيس السلطة ويرفض اللقاء والحوار فقط مع شركاء النضال من الفلسطينيين؟
في المقابل، نسأل أبا مازن، ألا تشكّل مخرجات لقاء القاهرة 2021، دعماً مباشراً لموقفه هو شخصياً عندما يستعيد شرعية وجوده على رأس السلطة عن طريق الانتخابات؟ وبرأيه ألا يشكّل ذلك أيضاً، إضافة هي الأهم لما ستقدمه من دعم كبير لمنظمة التحرير عندما تصبح ممثلة لجميع القوى الفلسطينية بشكل فعلي؟ لماذا يفوّت أبو مازن مثل هذه الفرصة الثمينة وربما تكون الأخيرة، بأن يكون قائد عموم الشعب الفلسطيني بالتنسيق مع شركائه في الفصائل، ألا تستحق مثل هذه الفرصة على الأقل بعض الجدية في الاستماع إليها؟

المطلوب؟
يواجه شعبنا اليوم هذه الهجمة الشرسة على وجوده ككل، بلا رؤية واضحة أو برنامج عمل موحّد، أو فريق عمل يمكن له أن يدير الأزمة، ويكون قادراً على حصد ثمار المكاسب التي حققها الشعب الفلسطيني بعد معركة «طوفان الأقصى». لن نوغل في الحلم بأن تكون لدينا وحدة وطنية فلسطينية ومظلة تظلنا جميعاً بفيئها، ولن نستطرد بالحلم لنتحدث عن انتهاء حالة الانقسام، فعلى ما يبدو أن هذا الحلم ليس مسموحاً به. لذلك فإن المطلوب من القوى الفلسطينية العمل بشكل جدي ومسؤول للخروج ببرنامج موحّد قادر على درء المخاطر التي تكاد تطاول رأس القضية الفلسطينية برمتها. إن المطلوب هو الحد الأدنى من التوافق المرحلي القادر على مخاطبة الآخرين بخطاب فلسطيني جامع، وفي ذلك مصلحة لجميع الأطراف سواء للسلطة التي يجب ومن الضروري أن تكون حاضرة في اليوم التالي بعد الحرب، وحماس التي تحتاج إلى الشرعية التي سيضفيها عليها الموقف الفلسطيني الموحّد والرؤية الفلسطينية الموحّدة لسيناريو ما بعد الحرب. إن الانقسام بهذا الشكل ليس من مصلحة أحد، لا شخصياً ولا حزبياً، والأهم ليس لمصلحة الشعب الفلسطيني الذي أدى الانقسام الحالي إلى تركه وحيداً حتى من قبل أشقائه العرب، فكيف يحق لأحد أن يلوم مواقف الدول العربية، وحال شعبنا هذا الحال المتشرذم والمنقسم كانعكاس لانقسام الفصيلين الرئيسيين، ولا سيما أن أسئلة مصيرية فرضتها الحرب الحالية، ومن ضمنها أسئلة اليوم التالي للحرب، لا يمتلك أحد الجواب عليها.
وعلى اعتبار أن روسيا، هي التي دعت لاجتماع «الفرص الأخيرة» كما أظن، فالمطلوب منها وهي الصديقة والحليفة، أن تكون أكثر جدية وإصراراً على عدم تفويت هذه الفرصة الذهبية، والتي نخشى جميعاً أن لا تتكرر. وإلا فإن «الطوفان» القادم لن يكون فقط في وجه العدو الصهيوني، بل سيبدأ بالقيادات الفلسطينية التي خذلته، ولم تكن على قدر النضال والتضحيات الجسام التي قدّمها الشعب الفلسطيني، ولا على قدر حلمه في الحرية وفي تقرير المصير. إن شعبنا الفلسطيني شعب عظيم، ويجب أن تكون قيادته عظيمة أيضاً ليحق لها أن تمثله، وإلا فإن عليها أن تواجه غضبه عندما تخذله.