عندما نرى حجم تطور بنية المقاومة في الضفة الغربية، بالتحديد في مخيمات اللاجئين فيها، لا يصدّق المرء أن هذه الحالة كانت قبل سنوات قليلة، أبطالها الأساسيون شهداء وجرحى وأسرى عمليات الطعن، أطفال ويافعون وشباب وشابات ونساء قرّروا أن يثوروا على الاستعمار بما توفر لديهم من أدوات قتال. اليوم بعد كل عملية إطلاق نار أو تفجير عبوة في ناقلة جند، تعود الصور لتلتئم، ونرى هذا الارتباط في التراكم. وهذا الشعور يكون في ذروة أسطوريته عندما ندرك أن أطفال الحجارة في غزة يقاتلون الآن أقوى إمبراطورية في التاريخ البشري، وهذا ما يطلق عليه سيف دعنا في «بودكاست الكرمل» في قيام الشباب جيلاً بعد جيل بتوطين المقاومة بالدم على مستوى التأسيس الذاتي والثقافي، وهذا جوهر العنف الثوري، حيث إن التاريخ لم يقدم أي أداة لإعادة تشكيل الذاتية المستعمَرة وتحرير الروح سوى العنف الثوري، وهذا بكل بساطة لأن العنف المفرط الذي يستعمله العدو لإخضاعنا لا يمكن التحرر منه إلا بعنف مضاد.

في هذه المقالة محاولة للتقرب من سيرة الشهيد البطل حسين أبو غوش الذي استشهد برفقة إبراهيم علان في 25/1/2016، بعد تنفيذهما عملية تسلل، ومن ثم تفجير عبوات محلية وطعن في مستوطنة بيت حورون، المقامة على أراضي قرية بيت عور الفوقا في رام الله. لقد أسفرت عملية أبو غوش وعلان عن مقتل مستوطنة وعدة إصابات باعتراف العدو. وفي المقالة استحضار لثقافة وقصص هبة السكاكين، الفعل الفردي الشجاع الذي قد يكون بدأ في عام 1800 عندما قام سليمان الحلبي بقتل قائد الحملة الاستعمارية الفرنسية في القاهرة بأربع طعنات في الصدر، بسكين اشتراه من أسواق غزة، وصولاً إلى عملية رعنانا قبل مدة قليلة، التي تعبر عن روح الجماعة بأكثر الطرق بساطة وجذريّة.
«مبارك لنا وللأمة بمشرقها ومغربها، وصل التاريخ بالتاريخ، ووصل الدم بالدم، ووصل الجهاد بالجهاد، ووصل الثورة بالثورة، ووصل النصر بالنصر»
[فاطمة عماد مغنية]

في 3 تشرين الأول عام 2015، نفّذ مهند الحلبي سليل سليمان الحلبي، رسالته المقدسة في البلدة القديمة في القدس، وفي ذلك اليوم بالتحديد ولدت إيلياء أبو غوش، وعندما ذهب حسين إلى المستشفى عند والدته، كانت فيه فرحة لا تسعها الأرض، حمل إيلياء أو شام كما كان يحب أن يناديها، وقال لها: «اجيتي وجبتي الانتفاضة معك».
لم يُكتب عن حسين الكثير، إلا عند استشهاده وتشييعه، وقد صدر عن مركز «قلنديا الإعلامي» كتاب: «حكايات شهداء مخيم قلنديا 1967 – 2017». وهناك محاولات عديدة للصحافية ميس أبو غوش للكتابة عن شقيقها حسين إلا أنها كما تقول: «كان بالعادة الأساتذة في الجامعة يطلبون مني الكتابة عن شقيقي، وعن منزلنا الذي هُدم، لكن كل المحاولات كانت صعبة جداً، كنت أنظر إلى حسين كنجمة في السماء أريد الحديث معها، أحياناً أكتب عنه جملاً قصيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي مرات كثيرة كنت أقوم بإتلاف ما أكتب».
الشهيد حسين محمد أبو غوش من مخيم قلنديا من مواليد 1999، لديه 5 إخوة و3 أخوات. وبعد استشهاده أنجبت أمه نجوى طفلاً، أسمته «حسين زين». في عام 1967 اقتُلعت عائلته بالقوة من بيتها الحجري الجديد في قرية عمواس قضاء الرملة، لترى نفسها برفقة آلاف اللاجئين بعيدين عن أماكنهم. نسفت قوات الاحتلال القرية بأكملها، وبعد عامين أقامت على أنقاض 1500 منزل من منازل أهالي عمواس ويالو وبيت نوبا، حديقة ومحمية طبيعية تسمى «كندا بارك»، بتمويل من الحكومة الكندية. كان حسين طفلاً كثير المشاكل ونمروداً، لا يحب التعليم المدرسي، ولعل أكثر أموره غرابة، أنه كان ينام وتحت وسادته سكين، وكان يقول: «أنا بموت ولا بخليهم يعتقلوني». تلقّى دورة في تصليح أجهزة الكمبيوتر، عندما كان في سنّ الرابعة عشرة، وكان متفوقاً فيها، وكان لديه حب فك وتركيب الأشياء. تعلّم بعد ذلك مهنة الحلاقة، وفي فترة حرجة عائلياً قرّر التخلي عن الدراسة المهنية.
«أملي في الله كبير، اللي كاتبه الله بده يصير، اذا انسجنا انسجنا، وإذا استشهدنا استشهدنا، الفردوس إن شاء الله، وداعاً وداعاً يا أحبتي، في جنة الخلد نلتقيكم... قربت يا ليث، قربت يا بلال، قربت يا أبو العيش، قربت يا محمد ومحمود عدوان، اللهم ارحم شهداءنا وشهيداتنا، هديل الهشلمون، لبنى الحنش، هديل عواد، ريم الرياشي».
[من وصية الشهيد حسين محمد أبو غوش]

في آخر ليلة قبل استشهاده، أيقظ حسين شقيقته ميس من النوم، وقال لها: «جبتلك إشي بتحبي» وكان معه كيس «شوكولا»، وطلب منها أن يمارس هوايته في النوم في الصالون، من دون أن تطلب منه أن ينهض ويذهب إلى سريره. وفي الصباح تناولا الفطور معاً، وخرج من المنزل، وفور خروجه تمالك ميس شعور غريب جداً. عند العصر اتصلت به عدة مرات، وكان هاتفه مغلقاً. ما بين الساعتين الرابعة والنصف والخامسة، كانت تشاهد التلفاز، فقرأت خبر عملية طعن، ورأت صورة لشابين على الأرض، تقول ميس: «استطعت تمييز أن حسين أحدهما من نومته على الأرض، ومن دون وعي قلت لأمي هذا حسين! فقالت: لا، تنجنيش، وانطلقنا مباشرة إلى غرفته للبحث عن ملابسه، لنقارن ثيابه، أو لعمل أي شيء. بدأت الصدمة تتسع شيئاً فشيئاً، حتى اتصل ابن خالتي وبدأ بالسؤال عن حسين، وقال لنا إن إبراهيم علان صديق حسين تأكد خبر استشهاده في عملية طعن في مستوطنة بيت حورون، ومعه شخص آخر غير محددة هويته، ولم تمض إلا دقائق حتى تأكد الخبر، حسين رفيق إبراهيم في الشهادة، وبعدها ذهب والدي لتشخيص الجثمان! وفي هذه الليلة القاتلة اقتحم جيش العدو منزلنا، وبدأت قواته بأخذ مقاسات المنزل من أجل هدمه!».
قبل أشهر من هذا الحدث اقتحم جيش العدو مخيم قلنديا، لهدم منزل أسير، فحدث اشتباك مسلح، استشهد خلاله صديقا حسين، ليث الشوعاني وأحمد أبو العيش. وكان هذا الحدث، أول ملامح اعتناق حسين الشهادة.
«يا ابن الجمل يا علاء ... يا شعلة مع إخلاص
يا مشرّد الأعداء ... بسكينك القصاص»
[أغنية عشاق الطعن – فرقة غرباء]

في محاضرة بعنوان «بين ألف الانتفاضة وباء الهبة: قراءة في أبجديات المقاومة» يقول الشهيد باسل الأعرج إنه منذ الهجمة الأخيرة للأعداء على فلسطين عام 1881، لم يكن هناك يوم في التاريخ الفلسطيني لم يكن فيه مقاومة. وعادة ما كان السكين وأدوات القتال البدائية تتصدر مشهد المواجهة. وصحيح أن أبطال السكاكين كانوا يظهرون في لحظات غياب التنظيم وبعد حملات مصادرة البنادق، إلا أنها بالعادة تكون التعبير الأصدق عن غياب الأفق السياسي والتمهيد لطريق ثوري جديد، كما هو الحال قبل الانتفاضة الثانية حيث مرحلة ما بعد أوسلو سُجل فيها 498 عملية طعن بالسّكين بين عامي 1993-1999، وعاد هذا المشهد بشكل مكثف بعد الانتفاضة الثانية مع تصدّر القدس وضواحيها ومدينة الخليل وجبلها ذروة المواجهة.
حسين لم يعش التهجير، عاش آثاره، ولم يعرف المكان الذي أتت منه عائلته. أدرك المخيم كمكان مؤقت ينتمي إليه وإلى ناسه أكثر من أي مكان آخر في العالم. وهذه بالمناسبة معادلة معقّدة، حسين لم يزر في حياته عمواس، وذاكرته عنها لم تكن سوى من جدتيْه (زينب من عمواس، ورية من يالو)، وعلاقته مع المنزل، هي مع منزل المخيم، تقول ميس: «المؤلم أننا لم نمنع تهجيرنا عام 1967، ولم نمنع استشهاد حسين، وحين قاموا بهدم منزلنا في المخيم، ولجأنا مرة أخرى شعرت بهذا الألم الذي يسمى لجوءاً، هذه الحالة وقفت أمامي تسائلني، وشعرت بعمق قلة الحيلة، سألت والدي لماذا نلوم أجدادنا؟ العدو الصهيوني هجّرنا من عمواس، وتحت بند العقوبات الجماعية نتهجّر مرة أخرى داخل المخيم؟».
أما رفيق حسين إبراهيم علان، فلا قرابة مباشرة بينه وبين حسين. تعارفا خلال تشييع في بيت عور، وتحولا إلى صديقين قريبين، ولم يخطر في بال العائلتين أن إبراهيم وحسين يخططان لعبورهما الأخير.
لا أحد علم أو يعلم بتفاصيل العملية سوى الشهيدين. لا نعرف سوى أن حسين كتب لإبراهيم على الفيسبوك قبل أيام «نفسي أذوق طعم النيص، يوم الإثنين بنصيد النياص» ورد عليه إبراهيم «ما تنسى البهار الأحمر». ويوم الإثنين اقتحما المستوطنة المقامة على أراضي بيت عور الفوقا، عن طريق عبّارات الماء، وكانا يحملان السكاكين والأكواع (عبوات محلية)، اقتحما وخاضا قتالاً ضارياً، أسفر عن قتل وجرح عدد من المستوطنين، واستشهادهما، تصف ميس المشهد: «بعد أربعة أيام من استشهاد حسين وإبراهيم قام العدو بتسليم جثمانيهما في الليل، كان الناس في منزلنا منذ لحظة الاستشهاد، ولم نكن مدركين ما الذي يحدث، كان التشييع في الليل، وكان الوداع مؤلماً جداً وبارداً كثيراً، مثلجاً... وحسين كان لا يزال ينزف، وأذكر أن والدي قال لنا، لا تحضنوه بقوة حتى لا يتأذى، كان خائفاً عليه حتى وهو ميت! وسريعاً رأينا جسد شقيقنا ينسحب من أمامنا على أكتاف الناس ويذهب إلى الأبد. أما إبراهيم فقد دُفن في اليوم التالي وكنا هناك أيضاً».
«صارت غرفتي تطل ع غرفتك، وغرفتك شباك كبير بيطل ع العالم»
[من كتاب: حكايات شهداء مخيم قلنديا 1967 – 2017]

في كل زاوية من زوايا البيت كان هناك حسين، رائحته وحضوره وصوته وضحكاته، وكان قرار هدم البيت الذي تم تنفيذه في العشرين من نيسان من العام نفسه، من أصعب ما مرّت به العائلة بعد استشهاد حسين. وكان قرار الهدم، يريد أن يستهدف وعي وعلاقة العائلة مع المكان، بوصفه الذكريات والطفولة والحياة الاجتماعية. رحلت العائلة من منزلها إلى منزل قريب. وكما عبروا، عن تلك الليلة، بأنه لا يمكن لهم نسيانها، فقد كانوا يسمعون صوت الهدم ويبكون جميعاً، وكان أصعب بكاء هو بكاء حسين سالم ابن عم حسين محمد، الذي كان يسمع من غرفته صوت الجنود وهم يشتمون ويلهثون وهم يقومون في الهدم. هذا الحدث ولّد في داخله شعوراً لا يمكن وصفه، تعب فترة طويلة، ومن ثم قام بعملية دهس، فاستشهد في الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد ابن عمه، أي في 25-1-2017، تقول والدته في كتاب حكايات شهداء المخيم «كبّرته بدموع عيوني، بخاف عليه من الهوى، حتى اللحظة مش صاحية».

خاتمة: لجوء الزنازين
في الذكرى الثالثة لاستشهاد حسين قامت قوات العدو باعتقال شقيقه الأصغر سليمان اعتقالاً إدارياً، لأنها كانت خائفة منه، وهو تقريباً إلى حد هذه اللحظة، وهو في السجن -فبعد كل اعتقال إداري يتم الإفراج عنه، ومن ثم يعاد اعتقاله إدارياً مرة أخرى-. أما عن ميس فقد اعتُقلت في أيلول 2019، وقد تعرّضت لتعذيب جسدي ونفسي عنيف جداً، ولعل أقذر أساليب المحققين/ات مع ميس، أنهم أثناء ممارستهم ساديتهم، خلال ضربها بالصفع وشد الشعر، كانوا يذكرون حسين ليقولوا لميس إنهم قتلوه. مرة يقول أحدهم إنه هو من قام بقتله، وآخر رآه ممدّداً على الأرض. وثالث متفاجئ من أن والدتهم تخلّف وتربي شياطين مصّاصي دماء.
كل هذه الحيل والضغوط الجسدية والنفسية، لم تنجح مع ميس، ولم تتمكن من الضغط عليها. لقد كان العكس، حسين يظهر كملاك يساعدها على الصمود، وعندما تغفو قليلاً كان يأتيها في المنام. آخر وسائل المهزومين كانت إحضار عائلتها للضغط عليها، وعندما رأت شقيقها وأمها وأباها في الزنازين، رأت في وجوههم التعب والخوف والشجاعة، وفيهم ملامح عميقة الشعور بأن عائلة الشهيد حسين لا يمكن أن تُهزم.
هذا النص خلاصات مستوحاة من حوار مع ميس أبو غوش بتاريخ 3/1/2024.