لم أفكر حين استقبلت مولودي الجديد بلقب أتودّد به إليه، فكان بديهياً «ليمونتي الصغيرة». ربما كانت أبيات نزار قباني محفورة في روحي، ومن دون أن أدري، اعتبرته وريث القضية، فكما قال نزار: «كل ليمونة ستنجب طفلاً ومحال أن ينتهي الليمون». شكّل لي هذا البيت «أيقونة»، ربطت بين هذه الشجرة وثمارها وبين قضية لن تموت. وهل أجمل من الفن حين يرسم رمزيات جديدة تصوغ عوالمنا! من الرمزية ذاتها، انطلقت الفنانة التشكيلية الفلسطينية حنين الطوسي، في أول معرض لها، عبر «ثلاثية» عبّرت خلالها عن الحق الفلسطيني وتوارثه بين الأجيال، فرسمت ثلاث نساء من أجيال مختلفة على ثلاث لوحات، قاسمها المشترك المرأة والليمون.
حنين التي تقيم في دمشق، مليئة بالهواجس نحو وطنها فلسطين، ومشبّعة بمفاهيم الحرية والتحرر والثورة على المحتل. عكست هذه المفاهيم والقيم في لوحاتها، وقالت عنها لـ«الأخبار»: «فلسطين ستكون حاضرة مع كل ضربة ريشة، ومع كل لوحة سأقوم برسمها في المستقبل».

البداية من المخيم
تتحدث الطوسي عن بداياتها الأولى مع الريشة واللوحة، وأثر نشأتها في مخيم اليرموك على نتاجها الفني، لما شكّله من رمزية وطنية فلسطينية، وساحة سياسية وثقافية تنبض بالحياة على مدار السنين منذ تأسيسه في عام 1954 على أطراف العاصمة السورية: «بدأت الرسم منذ سنوات وعيي الأولى، داخل حالة وبيئة المخيم، حيث كان مليئاً بالأنشطة الثقافية والفنية. فاستهواني الرسم واستهوتني الريشة التي تخلق الحياة على قطع القماش البيضاء. سحرتني الألوان، وبتّ أقضي الساعات محدّقة ومحلّقة معها في خيالي».

المرأة والليمون
جاءت فكرة اللوحات، كامتداد للبيئة التي عاشتها حنين في المخيم، وطريقة تربيتها: «داخل بيتنا المليء بالأجواء الفلسطينية، وأحاديث السياسة والقضية والوطن والعادات والتقاليد تربيت وترعرعت، فكل ما يدور في تفاصيل حياتنا يحمل ارتباطاً بفلسطين، مثل أي بيت أو عائلة فلسطينية مهما اختلفت الجغرافيا». وتوضح أن «اللوحة الثلاثية التي قدمتها قمت بإنجازها وتسليمها قبل شهر تقريباً من اندلاع حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال على شعبنا في غزة. وهذا يؤكد أن 7 تشرين الأول لم يكن البداية، إنما هو امتداد ونتيجة لأكثر من 76 عاماً من العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين».
اختارت حنين فكرة الأجيال الفلسطينية الثلاثة لتبدأ معها رحلتها الفنية وتضع خطوة أولى في طريقها: «كفنانة فلسطينية تبدأ مشوارها الفني، لا أستطيع أن أبتعد عن قضيتي، وأن أتناول أي قضية أو موضوع آخر لا يرتبط بفلسطين التي تعيش في داخلي. وحقيقة أنا ممتنّة لاختيار هذه الفكرة التي بدأت بها، فهي تعبّر عما يجري وتمر به المرأة الفلسطينية». وتوضح هنا سبب استخدامها رمزية الليمون: «لقد لجأت إلى الربط بين المرأة والليمون بطريقة تدل على الحياة والتجدد والتمسك بالثوابت، وبطبيعة الحال فإن ما تقدمه المرأة الفلسطينية هو شيء عظيم جداً. وفي الوقت الحالي تحاول غالبية الفنون، خاصة الصورة التركيز على المعاناة، بطريقة إلى حد ما قاسية، نتيجة الواقع المؤلم الذي تعيشه المرأة الفلسطينية، ولا سيما في غزة».

«تيتة خضرا»
تشرح حنين سبب اختيارها لنساء من أجيال مختلفة، فتقول: «أمضيت حوالي الشهر ونصف الشهر أو أكثر، وأنا أبحث عن الشخصيات التي أريد تجسيدها في الأعمال، خاصة اللوحة الأساسية، وهي لوحة السيدة الكبيرة في السن، فالتقيت بـ "التيتة" كما تحب أن أناديها، وهي تيتة خضرا موعد (93 عاماً)، خرجت من بلدتها صفورية في فلسطين عام 1948، بعمر 17 عاماً، فكانت شاهدة على جرائم الاحتلال منذ البداية، وهي فعلياً أكبر من كيان الاحتلال بحد ذاته».
في كثير من الأحيان يطغى موضوع العمل على اللوحة، وهذا ما حدث مع حنين خلال إنجازها لوحة «تيتة» خضرا التي ظهرت في لوحتها، وهي تحوك الثوب الفلسطيني لأحفادها، والليمون إلى جانبها، توضح حنين أنه كان بوسعها رسم أي شخصية أخرى «إلا أنّي شعرت بأنه لا بد من رسم سيدة فلسطينية عاصرت النكبة، ولا بد من إيصال رسالة وجودنا قبل هذا الاحتلال وكيانه، كما أننا شعب مليء بالحياة، كان يعيش على أرض وطنه، ويحمل إرثه الثقافي والاجتماعي والحضاري شأنه شأن باقي شعوب المنطقة. لذا حاولت التركيز على نظرة عين السيدة خضرا في اللوحة، وتفاصيل وجهها التي رأيت فيها قصة شعب مظلوم هُجر من أرضه».

الشابة
اللوحة الثانية من أعمال حنين كانت لشابة فلسطينية ترتدي ثوباً فلسطينياً، وتحمل الليمون، كأنها تمسك بالأمل، وتنظر إلى الأفق في دلالة على الروح المتعطشة للحرية والثورة، فتتحدث حنين عن حنين في اللوحة: «كنت مهتمة أن تكون ثانية لوحاتي لامرأة شابة، وبما أن الموضوع يعني لي شخصياً، رسمت نفسي مجسّدة القضية التي سترافقني في جميع الأعمال القادمة. وكان الثوب دلالة على الحق التاريخي للشعب الفلسطيني، أما الليمون فمثّل الأجيال القادمة التي سأنقل إليها حقها وقضيتها، وأؤكد لها في اللوحة أيضاً أنها أبناء تلك الأرض، أما النظر إلى الأفق فكان دلالة على إيماننا بالعودة إلى أرضنا».
أشارت حنين إلى أن لوحة الشابة الفلسطينية، مختلفة عن باقي اللوحات، بتكنيك الرسم والخلفية، موضحة السبب: «هذه اللوحة تعبر عن مرحلة الشباب، وهي الفترة الزمانية الحاسمة، وصلة الوصل بين الأجيال، وناقلي الرسالة من الجيل القديم إلى الجيل الجديد الذي ستمثله الطفلة في اللوحة الثالثة».

الطفلة
جوليا هي الطفلة الفلسطينية التي تجلس على الأرض، وتحمل بيدها الليمون، تظهر التطريزات الفلسطينية واضحة على الثوب الذي ترتديه، ترسم البسمة على محياها وترفع الليمون بيدها، بهذه العناصر قدّمت حنين اللوحة الثالثة من «الثلاثية»، التي تصفها قائلة: «اخترت للتعبير عن الجيل الجديد طفلة صغيرة معنية بالقضية الفلسطينية، وهي ابنة أختي، التي تتربى ضمن عائلتها على القيم الفلسطينية والحق الفلسطيني وعدالة القضية. تنقل إليها عائلتها تراث الأجداد بكل تفاصيله بأسلوب لطيف، وبالطبع حضور الليمون أساسي للدلالة على ديمومة هذا الشعب، وأن صغاره يحملون حقهم الذي ورثوه عن آبائهم وأجدادهم».

رمزية التفاصيل
تبدو واضحة الرموز في «الثلاثية»، كلها تدل على الوطن، كالتطريز والليمون، الذي تخبر حنين «الأخبار» عن أهميتها بالنسبة إليها: «لجأت إلى الرموز لما تستطيع حمله من أفكار، فمثلاً في لوحة تيتة خضرا، الليمونة ليست محمولة، بل هي مقسّمة ضمن صحن بجانبها، للدلالة على أن جيل النكبة أدّى الأمانة، وقدّم لوطنه عمراً بأكمله، وأوصل الرسالة لأبنائه وأحفاده. أما في لوحة الشابة، فالليمونة محمولة بيد الفتاة، كأنها تحمل شيئاً مقدساً، في دلالة على حرص الأجيال المتعاقبة على رسالة القضية وحفظها. أما في لوحة الطفلة، فالليمونة محمولة بطريقة لا تخلو من الأمل، وفرح الطفلة بالتعرف إلى وطنها عن قرب».
تختم حنين حديثها بالإشارة إلى أن «ثلاثيتها» تنتمي إلى المدرسة الواقعية، بتقنية اللون الزيتي. موضحة أنها استخدمت تقنيات ساعدتها على إيصال فكرتها، مثل ألوان البشرة التي كانت تضم تدرّجات لونية كثيرة، الأمر الذي أضفى غنى لونياً على اللوحات، وحرّض عند المتلقي المشاعر والأحاسيس تجاه شخصيات الأعمال والقضية التي تحملها.