كان المأمول أن لا يحلّ شهر رمضان المبارك إلّا وأهلنا في قطاع غزة ينعمون بشيء من الهدوء، ويصومون يومهم من غير أن تسقط عليهم صواريخ الإجرام من السماء، ويفطرون على ما توفّر لديهم من طعام المساعدات، ويجتمعون مع من نجا من أفراد العائلة. المأمول لم يتحقق حتى الآن، لكن، ورغم قساوة المشهد، ودخول العدوان الإسرائيلي شهره السادس، الشعب الفلسطيني في قطاع غزة صامد. وعبّر عن فرحه بشهر رمضان، بما توفّر في حياة النزوح، كفيديوات انتشرت لرسومات جميلة على ما بقي من جدران غير مدمرة، وتزيين للشوارع التي كانت مزدحمة بالمارة، وللمحال التجارية التي تحوّلت إلى أكشاك على الطريق. ليس هذا فحسب، فحتى الخيام تزينت، والأطفال صنعوا بورق الدفاتر فوانيس رمضان. كما «المسحراتي» خرج إلى الشوارع ليلاً، يضرب بعصاه غالون ماء متهالكاً، كما كان يفعل في كل رمضان لما كان يضرب على الطبلة. هذه المشاهد، بقدر ما تعبّر عن شعب يحب الحياة «ما استطاع إليها سبيلا»، بقدر ما تشكل ركيزة أساسية في معركة المقاومة مع المحتل، على قاعدة المقاومة الصامدة بشعبها الصامد.

رأس مال المقاومة
علمتنا دروس التاريخ أنه «إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب له القدر» كما قال الشاعر أبو القاسم الشّابي، وكما تداول العرب «لا يضيع حق وراءه مطالب»، وعرفنا بالتجربة أن أي قضية لن تنجح، إلا إن توفر لها من يؤمن بها، ومن يستعد لتقديم التضحيات خلال مسيرتها. فلسطين، وعلى مدار نحو 76 عاماً من عمر الاحتلال، دفعت أثماناً غالية في مسار النضال والمقاومة، فقدّمت وتقدّم خيرة رجالاتها وشبابها وزهراتها، إمّا شهداء أو جرحى أو أسرى في سجون الاحتلال. هذا النضال الذي بدأ منذ بواكير الاحتلال البريطاني لفلسطين، مروراً بيوم الأرض والانتفاضات الفلسطينية، «الحجارة» و«الأقصى»، وصولاً إلى ما سمّي في السنوات الأخيرة «هبّة باب الرحمة» و«انتفاضة السكاكين» في القدس، وليس آخراً وضعنا الحالي في «طوفان الأقصى».
كانت استراتيجية الاحتلال الإسرائيلي، وما زالت، ضرب المقاومة في مقتل، عبر تدفيع الشعوب أثماناً غالية، وهي إحدى النقاط التي تأخذها المقاومة بالحسبان دائماً، إذ يسعى الاحتلال من خلالها إلى ردع المقاومة وتخويفها، بالتهديد المستمر بالتدمير، وقتل السكان، والحصار، وهذا ما يحدث في قطاع غزة، ويلعب على وتره في لبنان. هذه الاستراتيجية لم ينجح الاحتلال فيها حتى الآن، فلم تحدث شرخاً بين المقاومة وشعبها.
ومن اللافت، بل المدهش فعلاً للصديق والعدو، قدرة المقاومة الفلسطينية في القطاع على الصمود لأكثر من خمسة أشهر متواصلة، وهي تتصدى وتهاجم الاحتلال بما تملك من أسلحة مصنّعة محلياً، جيش الاحتلال الذي أوقعت به خسائر مادية وبشرية، وهو يقاتل بأعتى الأسلحة الإسرائيلية والغربية وأحدثها. كل هذا ما كان ليتم لولا أن الشعب المحاصر في القطاع قبل بدفع الثمن واحتضان المقاومة، التي ظل الشعب ملتفّاً حولها في قتالها وتصدّيها للاحتلال، ولو أن الشعب تخلّى عنها لما صمدت يوماً إضافياً. بل إن كل الرسائل التي صدرت من الشعب الفلسطيني عقب كل دمار وجريمة، طاولت الحجر والبشر، هي رسائل التحدي والصمود والدعم. والأمر ذاته ينسحب على لبنان واليمن، التي شهدنا فيها تظاهرات مليونية تحتضن عملية الإسناد التي تخوضها القوات المسلحة اليمنية في البحار، وهو ما سجلته سابقاً حرب تموز عام 2006، من أهالي الجنوب والبقاع الذين دمّر الاحتلال قراهم وهجرهم.
وبالشيء الملموس في قطاع غزة في هذه الحرب، يبدو موقف العائلات والعشائر في القطاع، بعدما رفضوا محاولات الاحتلال اللعب على وترهم لتفريغ المقاومة من حاضنتها الشعبية، وتقليب الرأي العام ضدها. وقد نشرت حركة «حماس» بياناً أشادت فيه «بالموقف الوطني المسؤول لعائلات غزة وعشائرها، والذي رفض بِحَسم التجاوُب مع المخططات الخبيثة للاحتلال الصهيوني، والهادفة إلى خلق أجسام تنسيقية شاذة عن الصف الوطني الفلسطيني».

المقاومة عربياً وغربياً
عمّت التظاهرات الداعمة للشعب الفلسطيني في قطاع غزة عدة عواصم عربية وغربية. فمنذ بداية العدوان على القطاع، شكّل الشارع استفتاء الانحياز لصمود الشعب الفلسطيني ونضاله ومقاومته، في ظل تخاذل عربي رسمي واضح، وسياسة غربية مفضوحة في دعمها للعدوان.
كما أن هذه التظاهرات رفعت المقاومة إعلامياً، وأظهرت جليّاً دعم خيارها، ورفض معاهدات التطبيع مع الاحتلال. إلا أنها للأسف الشديد لم تستطع أن تغيّر من ترهّل المواقف العربية والإسلامية، التي اقتصرت على الإدانة وإرسال المساعدات التي يتحكّم بها الاحتلال براً، أو جواً، وهي إن وصلت لا تسدّ حاجة الناس، كما من المحتمل أن تقتل الناس أثناء محاولتهم الوصول إليها.
الظاهرة اللافتة للدراسة تمثّلت في الغرب، حيث أضحت التظاهرات في مختلف العواصم الغربية تشكل عبئاً على السياسة الغربية، وقد أثّرت في بعض مساراتها، وهو ما جرت ترجمته ببعض المواقف، كإقالة وزيرة الداخلية البريطانية سويلا بريفرمان من منصبها إثر انتقادها لتظاهرة داعمة لغزة. كذلك عودة النائب السابق جورج غالاوي بأغلبية الأصوات المؤيدة لفلسطين إلى قبة البرلمان البريطاني. فضلاً عن المشاكل التي يسببها العدوان على غزة على الحملة الرئاسية للرئيس الأميركي الحالي والمرشح للرئاسة جو بايدن، فيتعرّض للهجوم والاتهام بدعم الجرائم عند كل لقاء انتخابي يجمعه بالناخبين الطبيعيين عادة للحزب الديموقراطي. والأمر ذاته يواجهه العديد من الساسة الغربيين في حياتهم اليومية، فضلاً عن توقيف العديد من عقود الأسلحة مع الكيان من قبل بعض الدول الأوروبية، بعد التظاهرات والاعتصامات التي حدثت أمام مصانع الأسلحة، الأمر الذي ساهمت به القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية.
إنّ الشعوب الحيّة الداعمة لخيار المقاومة هي المرآة التي ترى بها نفسها، وهي بمثابة المقياس الحقيقي لقدرتها على الصمود وتحقيق الإنجازات، ورأس مالها، وإن فشل الاحتلال الإسرائيلي في زعزعة الثقة بهذا الخيار، فهذا كفيل بتحقيق الانتصار ولو بعد حين.