لم تكن الرحلة إلى غزة بهدف السياحة، كانت جزءاً من عملية التفاعل بين أبناء الوطن الواحد، لمدّ الجسور والتواصل. حينها لم نكن ندري أو يخطر في بالنا أن الرحلة اليتيمة التي قطعناها من جنين إلى غزة، كانت تفصل ما بين مرحلتين تاريخيتين من عمر الكفاح الفلسطيني. فبعد أسابيع قليلة من الرحلة اندلعت الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة) مدشّنة مرحلة الاشتباك للكل الفلسطيني، بعد أن كان النضال محصوراً بنخب عسكرية وثقافية.
لكن قبل هذه الرحلة إلى مدينة غزة، التي مثّلت لنا نحن أبناء الضفة الغربية، صورة المدينة المكافحة، والتي مدّتنا دوماً بصورتها الرمزية باعتبارها أيقونة الكفاح الفلسطيني في زمن الاحتلال. وقبل اندلاع الانتفاضة الأولى، كانت فلسطين كلها مفتوحة أمامنا للزيارة والتنقل من دون عوائق تُذكر، إلا أن التواصل الأكبر كان دوماً يأتي من غزة نحو مدن الضفة الغربية، سواء للتجارة أو لاستكمال التعليم الجامعي أو لزيارة القدس والمسجد الأقصى. وطالما كانت لقاءات كثيرة جمعتنا مع «الغزاويين» في باحات المسجد الأقصى، كان هناك التعارف، وهناك بدأت لحظات التواصل الأولى، وربما القائمون على تلك الرحلة قد نسّقوا هذه الزيارة في ليلة رمضانية مباركة على مصاطب ساحات المسجد المبارك.

(سمير حرب)

أربع صور لا تزال عالقة في ذهني من تلك الرحلة: الأولى، مشهد حاجز «إيرز» بيت حانون، الذي كان مفتوحاً بالاتجاهين حتى اندلاع الانتفاضة، حيث بدأ الاحتلال بممارسة سياسة التضييق، وفصل غزة عن كل فلسطين. أمّا المشهد الثاني، فقد كان مدخل مخيم جباليا، حيث أشار لنا الدليل في الحافلة إلى أن هذا المخيم هو أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين. والمشهد الثالث، هو ساحل المدينة تحديداً ما يُعرف بالميناء. أمّا الرابع، فهو شارع عمر المختار الذي يشق وسط المدينة. أتذكّر تلك المشاهد اليوم، وأنا أرى غزة وكل مدن ومخيمات القطاع تحت النار منذ نحو خمسة أشهر متواصلة، وأسأل نفسي عن أي حرب يتحدثون؟ فعرض قطاع غزة لا يتجاوز رحلة ساعتين مشياً على الأقدام، فكيف يستقيم الحديث عن تلك الحرب أمام هول الفاجعة المستمرة بلا توقف، وأمام بلادة صناع القرار الدوليين وصمتهم المطبق عن هذه الإبادة الجماعية للأهل في غزة.
عندما بدأ اللقاء في مدينة غزة، بيننا نحن القادمين من جنين بالحافلة التي أقلّتنا إلى هناك، أشار لنا أحد مضيفينا إلى أن هذه الزيارة عزيزة عليهم، خاصة أنها ليست زيارة سياحية بالنسبة إلينا، وليست لدوافع شخصية، بل هي تتويج لحالة التصاهر الوطني للكل الفلسطيني، وبالفعل حدث التصاهر في معركة الانتفاضة الأولى التي بدأت شرارتها الأولى في مخيم جباليا، ووصلت إلى جنين بعد أربعة أيام فقط. أذكر في ذلك اليوم كيف خرجنا في تظاهرات داعمة ومساندة لجباليا المخيم، لنرى بعدها أن الكل الفلسطيني انخرط في نشيد الاستقلال. صحيح أن الكثير من المتغيرات حدثت بعد ذلك، بعد مشروع «أوسلو» وإقامة السلطة الفلسطينية، لكنها لم تمنعنا أن نكون شعباً واحداً في مقاومة الظلم والاضطهاد، ولم تمنعنا من مواصلة المسيرة، ففي يوميات الانتفاضة الأولى، كنا نتابع الأحداث اليومية في غزة من بيت حانون في الشمال وحتى حي الشابورة في رفح. لكنّ المفاجأة التي تلقيتها، كانت حين لقائي في مطلع تسعينيات القرن الماضي مع عدد من الطلاب الجامعيين القادمين من غزة للدراسة في بيروت، حيث كنت أدرس أيضاً، كانوا متابعين لكل ما يجري في الضفة الغربية، فبعد أن لفظت اسم عائلتي، عرفوا مباشرة أنني من جنين، فللمدينة «معزة خاصة» في غزة، ولذلك لا تزال جنين تقاتل حتى هذا الوقت جنباً إلى جنب مع غزة، وتقدم الشهداء قرابين ليومنا الموعود.
أراد العدو من الحرب الدائرة الآن أن يكسر غزة، ليكسر الكل الفلسطيني، أراد أن يجعل منها خراباً، كي تكون عبرة لنا جميعاً، إذا استطاع فعل ذلك فقد نجح في تحقيق كل ما أراد، وعلينا جميعاً أن تبقى غزة، لأنها سر البقاء الفلسطيني العنيد. بقاء غزة بأهلها الشجعان الذين يقاومون الموت والهدم والجوع، ببسالة منقطعة النظير، بقاء غزة يعني بقاء القدس وحيفا وجنين وبيت لحم والناصرة. فغزة ليست فقط عنوان المقاومة المسلحة على عظمتها، هي أيضاً العناد الذي يجدي في زمن قوة الحديد، خلاصها اليوم من تلك المذبحة ينجينا جميعاً، إنها مصيرنا الذي اختارنا واخترناه، وهي التي وصفها ابنها الشاعر معين بسيسو بالقول: «هذه المدينة التي احتفظت بالتاريخ، داخل قرص عسل مغلّف بالشمع، هي مدينتي» فمن يستطيع أن يهزمها؟