أجل، تكاد الرسائل التي تصل إليّ تأخذني من وسط غابة الحزن التي تعرّش في قلبي فتسدّ عليّ منافذ القول والتعبير والصفاء والرضى المحلوم. أشعر بأن بعض خلق الله ما زالوا، وبعد مرور خمسة أشهر وأزيد على البطش الدموي الإسرائيلي في قطاع غزة والضفة الفلسطينية المحتلة، يريدون معرفة حقيقة ما يجري فيهما بعيداً عن الرواية الإسرائيلية التي تقنّعت بقناع الضحية مرّة أخرى، وهي رواية حاضرة، ليلَ نهارَ في الإعلام الغربي، وبتكثيف مركز.هأنذا، مثل غيري، أتلقّى رسائل وجيزة حيناً تشبه البرقيات، وأخرى طويلة حاملة للأسئلة والمخاوف والأسى، لأنّ أصحابها، وجلّهم من أهل التعبير الذين داروا منذ تفتّق وعيهم حول المعاني الكبيرة (الحياة والموت، والسخط والرضى، والنجاح والإخفاق، والسعادة والبؤس، والكرامة والنذالة، والحرية والقيود)، وحول الأسئلة العميقة الكشّافة (لماذا، وأين، ومتى، وكيف).


صديقي الكاتب الألماني توماس بالك الذي عرفته في مؤتمر أدبي في مبنى العالم العربي في باريس، والذي كاتبته منذ بداية الحرب على قطاع غزة والضفة الفلسطينية، يكتبُ إليّ في هذه الأيام رسائل حاملة لأسئلة ممتلئة بالحيرة والدهشة، ودالة على أنّ أهل التعبير في بلاده، أعني الكتّاب والشعراء والفنانين، لم يولوا قضيتنا الفلسطينية الاهتمام الوافي ليعرفوا أسبابها، والوقائع التي دوّنها التاريخ منذ 76 سنة وحتى هذه الأيام، أي إلى أن تجلّت مواجهة 7 أكتوبر 2023 عياناً، بكلّ ما فيها من خراب للدورة الدموية للمكان والحياة الفلسطينية في قطاع غزة، والضفة الفلسطينية. ولأنّ أسئلته كثيرة لم أتمكن من الإجابة عنها مجتمعة، فقد تلبّثت عند سؤاله الاستنكاري الذي فحواه: هل صحيحة هذه الأرقام المخيفة الآتية من قطاع غزة، ويعني أرقام الشهداء والجرحى والمفقودين، وأرقام البيوت والمدارس والمشافي والمخيّمات التي دُمّرت، وعديد سيارات الشحن الواقفة التي تحمل المساعدات منذ أشهر قرب معبر رفح في الأراضي المصرية وهي ممنوعة بأمر إسرائيلي من دخول قطاع غزة، وعديد القنابل، وأطنان الحديد التي سقطت فوق أراضي قطاع غزة، وما يقال ويشاع عن وجوه الفقد المتعددة لكلّ متطلبات الحياة في قطاع غزة، وتشريد حوالي 1.5 مليون وأزيد من المدنيين العزّل، ودفعهم قسراً لمغادرة بيوتهم من شمال قطاع غزة إلى جنوبه، وحصرهم في مدينة رفح الصغيرة التي لا تتسع لكلّ هذا العدد الكبير جداً، وكذلك الأرقام الكبيرة للشهداء والجرحى والمعتقلين في الضفة الفلسطينية المحتلة أيضاً؟ ويقول لي: أنا أشك في هذه الأخبار، فأخبرني بالحقيقة أرجوك! قلتُ: الأرقام صحيحة، يا توماس، وربما هي أقل بكثير من الواقع حين يحصي أهل البيوت أعداد من رحلوا عنها قسراً، بعدما تعاون الشر الغربي في كلّيته على أهلنا، فرحل الناس تحت البيوت التي دُمّرت، وقُتلوا في الشوارع والمدارس والمشافي والحقول، وقرب البحر، وهم يصطادون لكي يأكلوا، أو قرب البحر وهم ينتظرون رمي السلال الغذائية، وفي الأسواق، وأمام أمكنة توزيع المساعدات، لقد طاردهم الرصاص الإسرائيلي بكلّ أشكاله وأنواعه لكي يرحلوا، صغاراً وشيوخاً ونساءً، وعدد هؤلاء كبير جداً، لقد قتل الإسرائيلي الأطفال كي لا يكبروا، يا توماس، ولكي لا يواجهوه مستقبلاً، وقتلوا الشيوخ كي تُمحى الرواية الفلسطينية، وقتلوا النساء كي لا يعوّضن بمواليد جديدة، ودمّروا البيوت كي لا يبقى العمران شاهداً على حيوية الفلسطيني وعشقه للمكان، لأنّ المكان ليس عنواناً فقط، كما تعلم، يا توماس، بل هو الوطن والكرامة.
توماس، الإسرائيلي، وبتحالفه مع الغرب، امتلك القنابل النووية، منذ سبعين سنة وأزيد، كي يطمئن إلى وجوده هنا في بلادي الفلسطينية، لكنه لم يطمئن، فهو، وفي كلّ ساعة، يقتل ويعتقل ويسجن ويطرد ويشرد الفلسطينيين، ثم يسارع إلى الصراخ بأن ما يقوم به هو دفاع عن النفس، وكلّ المجازر والمذابح التي اقترفها الإسرائيلي منذ 76 سنة وحتى اليوم، مسجّلة لديه، ولديكم للأسف، على أنها دفاع عن النفس، وما يحدث الآن، ونحن في الشهر السادس من المقتلة في قطاع غزة والضفة الفلسطينية، يصفه الغرب، ترديداً لما يصفه الإسرائيلي، بأنه: دفاع عن النفس.
ها أنت ترى، يا توماس، ومنذ أشهر خمسة وأزيد، الإسرائيلي وهو يقتل، ويدمّر، ويجري الدماء أنهاراً لا مصبّات لها. لا في البيوت، ولا في الشوارع، ولا في المدارس، ولا في المشافي، ولا في البراري... والغرب، كلّ الغرب، يا توماس، يقول إنّ هذا الفعل الوحشي هو: دفاع عن النفس. لقد رمى الإسرائيليون قطاع غزة، منذ 7 أكتوبر 2023، وحتى اليوم، بقنابل لم تعرفها الحربان العالميتان الأولى والثانية، فوق مساحة من أرضنا لا تزيد على 365 كيلومتراً مربّعاً، أيّ فوق منشأة من منشآت ملاعب كرة القدم لديكم. والغرب الذي يتباهى بالآداب والفنون والتكنولوجيا ومؤسسات حقوق الإنسان، ومنظمات الرفق بالحيوان، والجهات القانونية، وضرورة أن يصير العالم جنّة على الأرض، لا يفعل شيئاً سوى أمرين هما الفرجة، وتزويد الإسرائيليين بالأسلحة الذكية، وكأنّ ما يحدث في بلادنا الفلسطينية هو مسرحية يعيد الإسرائيلي من خلالها تجسيد حرب طروادة القديمة أو الحروب التي شنّها نابليون بونابرت أو أدولف هتلر.
الإسرائيلي، يا توماس، الذي يمتلك القنابل النووية، والقوات الجوية والبرية والبحرية المهولة يبدو خائفاً ومرتجفاً من صرخة الفلسطيني المنادية منذ 76 سنة: بلادي، بلادي، ويبدو خائفاً مذهولاً من حيوية الذاكرة الفلسطينية التي لم تنس شيئاً، لا أسماء القرى رغم تدميرها وتهجير من تبقّى من أهلها، وهي أكثر من 600 قرية، ولا طعوم العيش في وطن تسوده الطمأنينة. الذاكرة الفلسطينية، يا توماس، لم تنس العادات والتقاليد والأعراف لأنها هي طبقات التاريخ التي تعالقت مع الأمكنة والعطاء والنيافة حتى صارت هي الهوية.
والإسرائيلي، يا توماس، الذي احتضنه الغرب بالرعاية التي تشبه رعاية حواضن المواليد الخُدَّج، ما زال على خوفه المتكاثر منذ 76 سنة وحتى اليوم، على الرغم من امتلاكه أحدث أسلحة الدنيا فتكاً وأكثرها ذكاء وقدرة على القتل والبطش والدموية، لأنه قاتل وغاصب ومحتل وسارق ووجه قبيح للباطل والظلم.
نعم، يا توماس، هذه الأرقام لمن استشهدوا، ولمن جُرحوا، ولمن فُقدوا، ولمن هُجّروا، ولمن شُرّدوا عن بلادنا بفعل الظلموت الإسرائيلي، هي صحيحة، وأقل من الأرقام الحقيقية لأنّ الفلسطينيين ما عرفوا لحظة هدأة واحدة، لا في ليل ولا في نهار، منذ 7 أكتوبر 2023 لكي يحصوا ما فقدوه، وهذه الأرقام لدمار البيوت والمشافي والمدارس ودور العبادة صحيحة أيضاً، وهي أقل من الأرقام الحقيقية، لأنّ الإسرائيلي نفّذ سياسة (الأرض الممسوحة) مثل السجادة، لأنّ حقده لا يريد رؤية أحد أو شيء فوق الأرض الفلسطينية، فكلّ ما هو حيّ أو يدل على الحياة والبقاء يريد مسحه؛ أتعرف من فعل مثل هذا في التاريخ الحديث، يا توماس، إنه هتلر، والإسرائيليون... ومنذ 76 سنة، يقومون، وبكلّ ما يمتلكونه من الشراسة، بما قام به هتلر، لأنهم هم وارثوه على هذه الأرض!
نحن، يا توماس، في جولة جديدة لنازية جديدة غامقة في حقدها وكراهيتها ووحشيتها، وهي بادية للغرب جهاراً، إن كان الغرب يمتلك عينين تريان، لكن الغرب لا يريد إغضاب الإسرائيلي القاتل، أتعرف يا توماس. لولا الغرب لما كان للإسرائيليين أن يبقوا فوق أرضنا سوى يومٍ واحدٍ، لغرضٍ واحدٍ، هو أن يجمعوا أشياءهم... ويرحلوا!