ثم ماذا؟ لا يؤرق هذا السؤال ليالي السوريين فحسب، بل يمتد أيضاً لكل من يعيش أو يعمل أو يتنفس تحت سماء الدولة السورية. فالمجريات والأحداث المتسارعة على الصعد كافة، وفي جميع نواحي الحياة في سوريا، والتي بدأت منذ احتلال العراق وحتى اليوم، لم تترك مجالاً للمواطن العادي، أن يرسم تصوراً ما عن ماهية المستقبل، لا البعيد ولا حتى القريب، مع كل ما يتبع ذلك من حياة القلق والخوف والاستعداد الدائم للمصيبة القادمة.
وفلسطينيو سوريا ليسوا استثناء من هذا الحال، فهم وبعد عقود طويلة من اللجوء إلى سوريا، قد أصبحوا جزءاً من نسيج المجتمع السوري، ويتفاعلون ويتأثرون بكل ما يجري على الأراضي السورية. لكن الأكيد، أنهم يعيشون قلقاً مضاعفاً ومركباً وخوفاً أشد من غيرهم، فهم في النهاية لاجئون وعرضة لأي تسوية أو حلول دولية قادمة أو محتملة في المنطقة.

الفلسطينيون في سوريا
يمكنني القول وبكل ثقة، إن الدولة السورية لا شيء قد تغيّر في موقفها السياسي والاقتصادي والاجتماعي من القضية الفلسطينية ومن الفلسطينيين. ولا تزال القضية الفلسطينية تحتل مكانتها الخاصة في القرار السياسي السيادي السوري. وإن كنا نلاحظ مراعاة واحتراماً أكبر للقيادة السياسية السورية لمسائل الكيان الفلسطيني السياسي، وخصوصاً بعد إعلان سوريا اعترافها بالدولة الفلسطينية في عام 2011، ورفع التمثيل الديبلوماسي من مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى سفارة دولة فلسطين في سوريا. وبقيت المنظمات والفصائل الفلسطينية تمارس عملها، وتتناحر في ما بينها من دون تغيير يذكر. ولا يزال اللاجئ الفلسطيني السوري يعمل ويتوظف ويستثمر ويتعلم ويخدم الجندية في «جيش التحرير الفلسطيني». وبذلك يكون اللاجئ الفلسطيني في سوريا مثله مثل أي مواطن سوري تقريباً، إذاً فعلى المستوى الرسمي لا شيء تغير.
أما على المستوى الشعبي، فلقد كانت القضية الفلسطينية ولا تزال تحتل مكاناً عميقاً في الوجدان الشعبي السوري، ولا يزال الشارع السوري بمعظمه يجد فيها جزءاً لا يتجزأ من قضيته المركزية السورية، على الرغم من أن المجتمع السوري قد تعرض لضربات قاسية هزّته بعنف في كل جوانب حياته. وحتى مع وجود الأصوات المتذمرة والناقدة، لكن عندما يجدّ الجدّ، كما رأينا عندما بدأت معركة «طوفان الأقصى» سرعان ما وضع الشعب السوري مشاكله جانباً ولو لبرهة، وعاد ليثبت تمسكه بقضيته في فلسطين. في الحقيقة، هذا الأمر ليس مستغرباً ولا مستبعداً، فالعلاقة بين الشعبين السوري والفلسطيني عميقة بقدر عمق التاريخ والجغرافيا، علاقة لا تنفصم أو تزول، فحتى الفلسطينيون السوريون أنفسهم، اعتبروا أنفسهم دائماً جزءاً من المجتمع السوري ونسيجه الحيوي، ولم ينعزلوا أو يتكتلوا أو ينغلقوا داخل غيتوات مغلقة، بل اندمجوا بشكل كامل داخل المجتمع السوري، وتشاركوا معه عجر حياتهم وبجرها دون تمييز يذكر.
أما بالنسبة إلى الأصوات التي تتخذ مواقف متشددة من الفلسطينيين بين الفينة والأخرى، وهي ليست جديدة، بل بدأت بالظهور منذ اليوم الأول للنزوح الفلسطيني إلى سوريا، فهي في معظمها ليست موجهة للفلسطينيين أنفسهم، بل بالأساس هي موجهة لكل ما هو غير سوري بحسب تعريفهم للسوري، وهو تعريف أبعد ما يكون عن منطق الأمور، وحتى عن دور سوريا التاريخي والحيوي في المنطقة. ومثل هذه الفئات الشوفينية، يمكننا أن نراها في كل مكان، وليس في سوريا فقط، وقد يصل بعض منهم إلى مواقع القرار، لكن ما يصدر عنهم من قرارات بين الفينة والأخرى لا يمكن اعتبارها سياسة للدولة، ومنهجاً جديداً للتعامل مع الفلسطينيين وقضيتهم.

ما الداعي إلى القلق إذاً؟
المشكلة في الفلسطينيين أنفسهم. فإذا كانت الدولة قد ضمنت لهم مركزاً قانونياً محترماً، وإذا كان المجتمع تعامل معهم كجزء لا يتجزأ منهم، فإن الفلسطينيين حتى اليوم متروكون بلا صوت، وبلا تمثيل، وبلا روافع سياسية أو اجتماعية. فعلى سبيل المثال، هناك مؤسسة رسمية اسمها «الهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين العرب»، كان من المفترض أن تشكل هذه الهيئة رافعة رسمية وسياسية مهمة للفلسطينيين في سوريا، وصلة الوصل في ما بينهم وبين الدولة، لكن ما نجده اليوم لا يعدو عن كونها «دكاناً» فقيراً لم يحاول أحد تطويره وتدعيمه بالأموال والوسائل. ومع ذلك ما يحدث اليوم، أن هناك معارك تدور على من سيشغل منصب مدير هذه الهيئة بعدما شغر المنصب أخيراً. والمنظمات والفصائل الفلسطينية لا تشكل حالاً أفضل، فمعظمها اليوم تعيش على الفتات الذي يمكن أن يصلها من الحلفاء الإيرانيين أو غيرهم. أما الاتحادات الشعبية، كاتحاد الطلبة واتحاد المهندسين واتحاد الحقوقيين وغيرها، فليست سوى انعكاس لصورة كسرة الخبز العفنة التي تقاسمتها الفصائل وعلى وجه الخصوص الفصيلين الأساسيين في سوريا وهما منظمة «الصاعقة» وحركة «فتح»، في حين احتفظت الصاعقة بقرار تعيين رؤساء الاتحادات، واستخدمتها كوسيلة لحصر التمثيل الفلسطيني بيدها، من دون أي اعتبار لانتخابات أو تمثيل حقيقي للشارع الفلسطيني، وتواطأت معها في ذلك «فتح» بسكوتها على ذلك، والمشاركة في تعيين بعض ممثليها في بعض المناصب الواهية. وبسبب غياب حماس أو المشروع المنافس، فإن القبضة على القرار الفلسطيني قد أحكمت من قبلهما، فالمراقب اليوم لحقيقة الوضع على الأرض، سيجد أن الغطاء الحقيقي للمحامي أو المهندس أو المعلم الفلسطيني يأتي من خلال انتسابه إلى نقابة المحامين أو المهندسين أو المعلمين السورية، وليس من خلال الاتحاد الفلسطيني غير المعترف به أصلاً حتى من قبل منظمة التحرير وسلطة «أوسلو» نفسها. على هذا المثال، يمكننا أن نقيس حالة الفلسطينيين في سوريا في كل مكان.
المثير للاستغراب، أن هذه الفصائل الفلسطينية ذاتها فعالة في لبنان، وتتنافس على الشارع الفلسطيني، ومن أجل ذلك تفتتح المكاتب والمؤسسات وتصرف الأموال. وتتطور منافسة هذه الفصائل حتى بين قيادات الفصيل الواحد، ففي «فتح» مثلاً هناك مجموعات متناحرة في ما بينها من جهة، ومن جهة ثانية مع وجود «حماس» وما تشكله من مشروع منافس لمشروع السلطة الفلسطينية و«فتح». هذه الحالة غابت عن فلسطينيي سوريا تماماً، ولا سيما أن هناك تاريخاً طويلاً لغياب منظمة التحرير ومؤسساتها في حياة اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، وتحديداً مع تشكّل «تحالف القوى الفلسطينية» وصولاً إلى خفوت دوره اليوم. تلك المؤسسات التابعة للمنظمة كصندوق الضمان على سبيل المثال لا الحصر، تعمل في لبنان ولم تتوقف، وتؤدي أدواراً أساسية في حياة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وهم يتعرضون لحرمان بمعظم الحقوق المدنية، هذا رغم وجود خدمات أخرى تقدم من قبل باقي الفصائل ومنها تلك المنضوية ضمن «التحالف». هذا فضلاً عن أن التمويل الإيراني لنشاطات الفصائل في لبنان سخيّ ولا ينقطع، عكس ما عليه الحال في سوريا تماماً، من دون أن نتمكن حتى الآن من الإحاطة بالأسباب الكاملة لهذه الظاهرة وإن كنا قادرين على فهمها.
يشعر الفلسطينيون بالقلق اليوم أكثر من غيرهم، لأنهم مركب بلا شراع، منسيّون ومتروكون من الجميع. وبينما يعجّ الفضاء السياسي للمنطقة بأحاديث لا تنتهي عن تسويات وحلول نهائية وصفقات للقرن، يدرك الفلسطينيون أن رياح هذا التغيير لن تكون بعيدة عنهم، وأنهم بلا حوامل وروافع سياسية واقتصادية واجتماعية حقيقية تمثلهم وتستمع إليهم وتساعدهم في إيصال صوتهم. ويدركون أيضاً أن هذه الرياح لو هبت ستجرف هذا القارب، وأنهم سيكونون أكثر من يدفع الثمن، ومن أجل ذلك، لا يجب أن نستغرب أبداً عندما يحاول هذا الشعب المناضل الصابر تنظيم نفسه من جديد، وخلق روافعه الخاصة به بعيداً عن كل «الدكاكين» البعيدة.