متى يتم استحضار النبوءات، ولماذا؟ متى يُفتَجُ صندوق «الوصايا»؟ والكلام هنا ليس عن الوصايا العشر التي نعرف، فليس في هذا الصندوق ما يمتّ لها بصلة، والأهم، من يستحضرها؟ لزمنٍ طويل، كانت أعدادٌ كبيرةٌ من الأطفال ضحايا «معرفة» أولى ومغلوطة بالله، لأنّ أحداً كان يهدّدهم، يرعبهم ويروّعهم، بأن الله سوف يخنقهم إذا فعلوا أمراً ما، أو سيحوّلهم إلى قردة، يخسف بهم الأرض، وما إلى ذلك من ترّهات يعرفها معظمنا، هذا في الشرق، هنا، وهي قصص يخفّ تأثيرها أو يبطل في عمر معين، ومع الأسف، تبقى لها آثار سلبية في الشخصية ونمط التفكير، وإن اختلفت الأعمار.
بعض ما شاهدناه وسمعناه أخيراً في الولايات المتحدة الأميركية، يشبه تلك القصص، هناك من يهدد ويتوعد وينذر بأسوأ أنواع العقاب والعذاب لمن لا يساند إسرائيل، حتى وهي ترتكب جرائم الإبادة اليومية بحق الفلسطينيين، وهذا التهديد والوعيد لا يُخوَّف به الأطفال الصغار، من قبل أمٍّ بسيطة ضاقت ذرعاً بمشاغباتهم وضجيجهم، بل عامة الشعب، طلاب جامعات وأعضاء أحزاب، «أحاديث» دينية، يُفتَرَضُ أن معظمها من التوراة (العهد القديم)، ولو أن هذه الأحاديث جاءت من منابر دور عبادة، لكان الأمر قابلاً للنقاش، أو التفهّم ربما، وخصوصاً أننا أبناء منطقة، يشكل الدين فيها الأساس التي يقوم عليه الكثير من القوانين، وبالتأكيد لا أقارن، لأن الأمر لا يصحّ، تماماً كما لا يصحّ اتخاذ المثال، كدليل في النقاش وحجة في الردّ على من ينتقد خصوصية مجتمعاتنا سياسياً واجتماعياً، لكن، أن تأتي هذه الأحاديث من مؤسسات أميركية رسمية، ومن شخصيات سياسية وأكاديمية، يصير الأمر مستغرباً ومثيراً للريبة، فمع هؤلاء، يتحوّل صندوق الوصايا إلى صندوق «pandora» المرعب في الخرافات اليونانية.
واحدة من هذه النبوءات، من هذه اللعنات «الربانية» المفترض أنها مسلّطة على رؤوس العباد، جاءت على لسان النائب الجمهوري إريك إلين خلال جلسة مساءلة لرئيسة جامعة كولومبيا مينوش شفيق الأميركية من أصول مصرية، قبل أيام قليلة من سماح شفيق للشرطة باقتحام حرم الجامعة، التي تشهد احتجاجات تضامنية يومية مع الشعب الفلسطيني، واعتقال أكثر من مئة طالب من المحتجين، الذين يطالبون بوقف تسليح ودعم كيان الاحتلال، ويتهمون الإدارة الأميركية بالمشاركة في الجرائم الإسرائيلية.
خلال الجلسة، يقول إلين لـ شفيق: «لقد كان العهد القديم الذي قطعه الله مع إبراهيم واضحاً جداً، إذا باركت إسرائيل أباركك، وإذا لعنت إسرائيل ألعنك، هل تريدين أن يلعن الله جامعة كولومبيا؟»، وتجيب رئيسة الجامعة: «بالطبع لا».
هكذا، بهذه السذاجة والسطحية، وفي جلسة مساءلة رسمية، يسأل نائبٌ عن الأمة، وتجيب رئيسة واحدة من أعرق الجامعات الأميركية، النقل الحرفي للكلمات لا يفي المشهد حقه، تعابير الوجوه وطريقة النطق، تقعيرٌ أعمق، تشعر أن ما كان ينقص الفيديو، موسيقى تصويرية من فيلم «البعثة» (the mission) أو «الوصايا العشر» (the ten commandments)، لضمان أن يقع التخويف من «لعنة الرب» في القلوب.
الأمر ليس صدفة، هو توجّه له فعل القرار، سياسة «مقدّسة» يُفرَضُ على كل سياسي أميركي التعمد بها. ما جرى خلال جلسة المساءلة، يختصره رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون بعبارة: «دعمنا لإسرائيل وصيّة من الله»، جونسون الذي انتخب رئيساً للمجلس العام الفائت، كان أهم ما جاء في خطابه الأول، طرحه مشروع قرار دعم للكيان الإسرائيلي في حربه ضد قطاع غزة، والترجمة الفعلية لهذه التصريحات يجب أن تُقرأ من خلال الأفعال والقرارات الأميركية، مشاركةً وتسليحاً، وإحكام الإمساك بمجلس الأمن الدولي، وأيّ توجه لإدانة إسرائيل في الأمم المتحدة، أيضاً، يجب أن تُقرَأ من خلال السياسات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط ككل، حروباً أو انقلابات، أو «دعماً» وتسلّلاً إلى «ثورات»، اندلعت ضد أنظمة فاسدة ومستبدة، وعلى مدى عقود كانت مدعومة من واشنطن ذاتها، ويجب أن يُقرأ بعناية حين تجد أن بعض الحركات المطالبة بالإصلاح والتغيير، تُمَوّلُ وتُوجَّهُ من منظمات الـ«N.G.O» الأميركية وغيرها.
استخدام «النبوءات التوراتية» في «صناعة» القرارات الأميركية ليس طارئاً في واشنطن، ولا في محاولة التأثير بالرأي العام الأميركي، ولست بوارد النقاش، إن كان الأمر إيماناً أو استخداماً واستغلالاً، لأن النتائج جاءت ولا تزال كارثية على منطقتنا. أذكر، أن المرة الأولى التي قرأت فيها حول هذه «النبوءات» كانت بعد القصف الأميركي على ليبيا عام 86 من القرن الماضي، كان الرئيس رونالد ريغان من المؤمنين بتلك النبوءات، وفق مقالات ومقابلات متلفزة، وكان من الأشخاص الذين يعتقدون أنهم قد يكونون من الجيل الذي سيشهد معركة «هرمجدون»، وقيام السيد المسيح (ع)، بعض الصحافيين آنذاك، قالوا إن كلامه يعطي انطباعاً شبيهاَ بشروحات رجال اللاهوت، الذين يجزمون بحرفية وعصمة «العهد القديم»، ومن هؤلاء القس جيري فولول، القوي التأثير على كل من ريغان والرئيسين بوش الأب والابن. فولول وأمثاله، كانوا يتنبأون بحتمية معركة فاصلة بين «قوى الخير والشر»، ميدانها الشرق الأوسط، تستخدم فيها أسلحة دمار شامل، وكان معظمهم متفقاً على أن هذه المعركة ستكون على «حدود إسرائيل»، ولهذه الأسباب، ربط بعض الصحافيين والمحللين إصرار الرئيس ريغان على إبقاء القوات الأميركية في لبنان عام 1983، لتكون قريبةً من حدود فلسطين المحتلة حين تقع المعركة.
ماذا يعني أن تستحضر وتستخدم «المقدس» المُشوَّه والمُحرَّف في السياسة وفي الحروب، تكون النتيجة مشهداً (داعشياً) بامتياز، لقد تحوّل الإسم إلى صفة للتعبير عن البشاعة والتوحش، بالأمس، شهدنا على شاشات التلفزة قطع رؤوس، وآكلي أكباد، وبدون غض نظر عن من أوجد «داعش» كتنظيم، من موّله وسانده وسخَّر له الإمكاناتِ اللوجستيةَ والاستخبارية، فهذا نقاش يطول، لكن، ألا يحق لنا، ألا يجب علينا، إجراء نوع من المقارنة، شيء يشبه الإسقاط. إن عدد ضحايا الجرائم التي ارتكبها «داعش» لا يقارن بما ارتكبه ويرتكبه الإسرائيلي في فلسطين المحتلة والمنطقة، جرائم إبادة جماعية، رضَّع وأطفال وعجائز، اقتحام المستشفيات وقتل المرضى والمصابين والأطباء، اعتداء على النساء، تجويع أكثر من مليونَي إنسان، ثم تعمّد قتلهم وهم يلتقطون فُتاتَ المساعدات، لا أعرض كل هذا للتدليل على فداحة وهمجية الاحتلال، هذا أمر مفروغ منه، مثبت ومحقق ولو لم تقرّ بذلك عواصم الدول المنحازة إلى الكيان الإسرائيلي، إنما أعرضه لأسأل عن مسؤولية الولايات المتحدة كشريك في الجرائم، الحكومة الأميركية التي لم تر بعد ما يؤشر (ولو إشارة) على ارتكاب انتهاكات ضد الإنسانية في قطاع غزة، لم تشاهد المجازر والتجويع، والأنكى، أنها من وقت لآخر تمنح حكومة وجيش الحرب الإسرائيليين شهادات في الإنسانية، في الحرص على سلامة المدنيين، والحرص على القوانين الدولية والإنسانية، والسبب، ببساطة، على بشاعتها وتوحشها، لأن على هذا الكوكب دول تُوصف بالمتحضرة، لا ترى الفلسطيني أو المشرقي أو المسلم بشراً، ترى فقط ثروات أرضه ونفطه، ومكاناً يصلح ليكون ساحات حروب تضمن ارتفاع أرباح صانعي السلاح وغيلان المال. وإذا كان المطلوب تبريراً «أخلاقياً» لهذا، إذا كان المطلوب صناعة رأي عام يتقبل هذه السياسات، فأيّ كلام سيكون أفضل من «العهود الربانية» و«النبوءات المقدسة»، ولو لتبرير القتل، كل ما يلزم، تأويل مناسب، وربما غداً، لن يروا حاجة إلى التبرير.