تونس | يبدو أنّ الجدل حول مبادرة رئاسة الجمهورية في تونس، المتعلقة بالمصالحة الوطنية في المجالين الاقتصادي والمالي، بدأ يأخذ منحى تصادمياً ويخرج من دائرة التصريحات والتصريحات المضادة. تتوسع دائرة الأزمة لتصل إلى الشارع وإلى داخل «هيئة الحقيقة والكرامة» المخولة، بحسب قانون العدالة الانتقالية، القيام بهذه المصالحة.
ويوم أول من أمس، قامت قوات الأمن التونسي بتفريق نحو مئتي شخص انطلقوا في تظاهرة (في وسط العاصمة) ضد مبادرة المصالحة الاقتصادية. وجرى استعمال القوة، فجرح عدد من المتظاهرين واحتجز آخرون، تحت مبرر أنّ البلاد تعيش في ظل قانون الطوارئ الذي يمنع التظاهر، ما خلّف موجة استياء شعبي.
إثر تلك الاعتداءات، قررت لجنة الحقوق والحريات البرلمانية استدعاء وزير الداخلية، ناجم الغرسلي، لسؤاله عن استراتيجية وزارته في التعامل مع الاحتجاجات السلمية. ورأى نائب رئيس اللجنة، نوفل الجمالي، في حديث إلى «الأخبار»، أنّ «حالة الطوارئ ومحاربة الإرهاب يجب ألا تشكّل مسوغاً لقمع الاحتجاجات السلمية، مهما كان موضوعها».
لجوء الأمن إلى القوة (التي سبق أن لمّح إليها أمين عام «نداء تونس»، محسن مرزوق، حين ذكّر بأن البلاد في حالة طوارئ) وحّد معارضي مبادرة المصالحة الاقتصادية خارج إطار مسار العدالة الانتقالية، أي من دون كشف الحقائق والمحاسبة بإشراف «هيئة الحقيقة والكرامة».
ويتلخص مشروع قانون الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، للمصالحة مع رجال الأعمال وموظفي الدولة المتورطين في الفساد المالي خلال حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وقبله الزعيم الحبيب بورقيبة، بفرض، على من ثبت أنه استفاد من منصبه ومن المال العمومي خلال تلك الفترة، إعادة ما غنمه مع إضافة نسبة 5 في المئة توجّه نحو مشاريع تنموية داخل البلاد. وبناءً على مشروع القانون المطروح في منتصف تموز/جويليه الماضي، تطوى صفحة الماضي بصفة نهائية، الأمر الذي من شأنه إلغاء مبدأ كشف الحقائق والمحاسبة.

جبهة ضد المصالحة

«الجبهة الشعبية» أعلنت إطلاق مشاورات لتشكيل جبهة ضد مبادرة الرئيس الباجي قائد السبسي، تضم أحزاباً سياسية ومنظمات المجتمع المدني الرافضة للمصالحة مع رجال الاعمال الذين نهبوا البلاد من دون محاسبتهم. ومن المنتظر أن تتوضح أكثر ملامح هذه الجبهة خلال الأيام المقبلة.
وفي حديث إلى «الأخبار»، قال أمين عام «حزب الوطنيين الديموقراطيين الموحد» والقيادي في «الجبهة الشعبية»، زياد لخضر، «انطلقنا في مشاورات للتنسيق وإيجاد آليات لسحب مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية قبل المصادقة عليه في مجلس نواب الشعب، ومن بين هذه الآليات الخروج إلى الشارع».
وتطالب مجمل الأطراف السياسية، كما «المدنية»، الرافضة لمشروع القانون، بسحبه من مجلس النواب وبتنظيم حوار للخروج بحل يسرّع مسار المصالحة الاقتصادية، باعتبار أنه سيساهم في ضخ أموال في البلاد، ولكن من دون تجاوز الدستور والقفز فوق قانون العدالة الانتقالية الذي ينص على ضرورة كشف الحقائق والمحاسبة ومن ثم إقامة المصالحة.
في المقابل، أكد المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية، معز السيناوي، أنه لن يُسحب مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية من مجلس النواب، معتبراً أن مراجعة المشروع وتعديله سيجريان على ضوء ما سيتوصل إليه النواب بعد عرضه للنقاش.
وزاد حديث السيناوي من تأزم الوضع، خاصة أن الغالبية داخل البرلمان التونسي (حركة نداء تونس وحركة النهضة والاتحاد الوطني الحر وحزب آفاق تونس) تسعى إلى تمرير مشروع القانون بعد إضافة تعديلات عليه.

أزمة داخل «هيئة الحقيقة والكرامة»

وخلال الحديث إلى «الأخبار»، رأى زياد لخضر أنّ المبادرة أخذت منحى سياسياً لن يخدم مصلحة البلاد، بلغ حدود الاعتداء على المتظاهرين ضد المصالحة وإثارة أزمة داخل «هيئة الحقيقة والكرامة» (التي يخوّلها قانون العدالة الانتقالية القيام بالمصالحة) وإشعال نار الخلافات بين أعضائها، لإظهار أنها عاجزة عن القيام بالمصالحة.

نوفل الجمالي: حالة الطوارئ يجب ألا تشكّل مسوّغاً لقمع الاحتجاجات السلمية

وجدير بالذكر، أنّ هذه الأزمة التي تحدث عنها القيادي في «الجبهة الشعبية» تتمثل في تقديم أحد أعضاء «هيئة الحقيقة والكرامة» استقالته، فيما طُرد عضو آخر بسبب موقفه الداعي الى التعاطي بإيجابية مع مبادرة رئاسة الجمهورية.
وأنشئت الهيئة بموجب قانون العدالة الانتقالية الذي صدّق عليه المجلس الوطني التأسيسي في كانون الأول 2013، وحدد القانون مدة عمل الهيئة بأربع سنوات قابلة للتمديد سنةً ولمرة واحدة.
وتتمثل مهمات الهيئة في كشف حقيقة انتهاكات حقوق الإنسان خلال الفترة الممتدة منذ الأول من تموز عام 1955، حتى 31 كانون الأول 2013، ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات و«جبر ضرر الضحايا» ورد الاعتبار لهم.
كل هذه التطورات في التعاطي مع مبادرة الباجي قائد السبسي، المتلخصة بتسريع المصالحة لمصلحة البلاد كما يقول، من المنتظر أن تدفع باتجاه مزيد من تأزيم الاوضاع وتفجيرها، خاصة بعد الاعتداء الأخير على المتظاهرين، وفي ظل تصلب موقف رئاسة الجمهورية وامتناعها عن سحب مشروع القانون والتشاور بخصوصه.