سرقة خلف خطوط الضعف
لم يكن اللص المكسيكي يعرف مكان لوحة فان غوغ. كان مشغولاً بمعرفة خطوط القاهرة، كما يعرفها من «غوغل إيرث». ورغم أن سرقة الشقق تحتاج إلى علاقة بالمكان، إلا أن العصابة التي تكونت عبر غرف الثرثرة، استطاعت أن تتسرب من ثُغَر الأمن، وتسرق نحو ٢٠ مليون جنيه.
العصابة الدولية ليست الأولى، سبقتها عصابات أخرى، عرضت إمكاناتها في ظل تصنيف مصر جنة للصوص، وفي ظل فوضى يبدو فيها الأمن قوياً ومسيطراً، لكنّ لترسانته شقوقاً تعبر منها عصابات ولصوص مهووسون مثل سارق «زهرة الخشخاش».
لص «الزهرة» غامض الأهداف، ماذا سيفعل بغنيمة لا يقدر على بيعها أو المتعة العلنية بامتلاكها؟ هل هو مهووس، استعراضي يبحث عن شهرة، ويخرج لسانه للنظام والحكومة اللاهية عن ثرواتها؟ أم مندوب مافيا تجارة سرية تدخل باللوحة مساومات على أشياء أخرى؟
اللص كان لديه وقت كامل في ظل غفلة من يحسب اللوحة «مجرد تصويرة لا قيمة لها»، وهو تصور لدى كل الواقفين على بوابة قصر محمد محمود باشا، الشخص الغريب من نوعه.
كان وزيراً للزراعة في حكومة النحاس، ورئيساً لمجلس الشيوخ مرتين، لكن شهرته كانت في الفن والهوس بتلك الطاقة التي تجعل قطعة قماش أو خشب أو ورق، نابضة بالحياة.
الباشا لم يكن نبتاً شيطانياً، كان ابن مرحلة وعصر ظهر فيه الأمير يوسف كمال، مؤسس كلية الفنون الجميلة، رئيس جامعة القاهرة، الذي أسهم بثروته الكبيرة في تنمية القرى في الصعيد، وعندما قامت ثورة الضباط في تموز ١٩٥٢ أعاد إلى مصر مجمل ممتلكاته في الخارج، وسدّد ثمن ماكينات زراعية اشتراها من أوروبا لأرضه التي كانت مصادرة. باشوات من زمن لم يكن الفن فيه منبوذاً أو مجرد أداة ديكور كما هو الآن. والقضية ليست مجرد معلومات عن الفن وأسماء الفنانين، لكنها روح مفقودة الآن، تتسع لترى أوسع من احتياجات اللحظة الراهنة وغرائزها. روح متسعة تستطيع أن تحتفي بقدرات البشر على الإبداع والتأمل والتفكير.
والفقر هنا ليس مبرراً. كل الفنانين فقراء، وحياتهم بائسة، لكنهم أضافوا للعالم هواءً يجعل العالم أكثر رحابة، ورقياً، وأقل انغلاقاً وتطرفاً.
هكذا فإن الأرواح المحرومة من الموسيقى ممنوعة من السفر في دروب الفن، أرواح فقيرة بائسة، يمكنها التحول إلى قطيع من التعساء ولو ملكت ثروات الأرض.
هكذا فإن محمد محمود خليل من فصيلة انقرضت، بعدما سيطر عقل التتار الهمجي، العشوائي، ليغلق منافذ الهواء المفتوح.
عقلية لا تحترم الفن، واحياناً تتباهى به، أو تفخر بمعرفة نجومه. وهنا لا فرق بين حوت من حيتان الانفتاح وما بعد، فالرئيس السادات يفخر بتوقيع أشهر مصممي الأزياء على ملابسه، لكنه أغلق متحف محمد محمود خليل وحوّله إلى مبنى ملحق بقصره.
الباشا المهووس بالفن تبرع بالقصر والرئيس حوّله إلى مخزن. وليس غريباً هنا أن يسرق اللصوص اللوحة مرتين، بينما الموظفون بدم بارد يقولون إن الكاميرات معطلة. لماذا فتحتم المتحف من دون كاميرات؟ وكيف عبر اللص الحواجز بمشرطه؟
لماذا يبدو الأمن يقظاً فقط في الحفاظ على الرئيس وعائلته؟ الرئيس ثار من الخديعة، وطالب بالانتقام من أجل «فان غوغ»، الذي دخل السجال المصري كما لم يتوقع أحد، فجماعة الإخوان المسلمين طالبت بالتحقيق في ضياع اللوحة.
شغف بالفن بدا ضد عقلية الجماعة، وضد اهتمام المصريين، الذين فوجئوا بأن هذه اللوحات تصنع ثروة. محمود سعيد، المصري الفرنسي بيعت لوحته في دبي بـ١٢ مليون جنيه، و«زهرة» فان غوغ تقدّر بـ٣٠٠ مليون جنية. الأرقام هذه أثارت الحوارات عموديّاً وأفقياً حول الفن، إلى درجة أن عمرو أديب استعرض بثقافته الفنية على جمهوره، وأفاض في الإشادة ببراعة لوحات الفنان الهولندي، واستخدامه الضوء، ومهارته في تجسيد النساء. صوته كان يعلو بينما يشرح أسباب إعجابه بفان غوغ علة لوحات رمبرانت.
فاروق حسني محبوس في خانة ضيقة، يدخلها بنصف وعي وبرغبة كاملة في الدفاع عن النفس. لسرقة اللوحة تأثير يهدده شخصياً. هنا ينفعل ويخرج عن الصورة الوديعة والمبتسمة التي اجتهد في رسمها لنفسه. يتحول الخروج عن الصورة إلى «استعراض وفرجة» لا يمكن مقاومتهما لأن فاروق حسني يقترب في هذه الحالة من المزاج العصبي لممثل يبحث عن مخرج ينظم له حركاته. لكنه لا يجد مخرجاً. ويضطر للصعود على الخشبة ليردد كلمات غير مترابطة. لكنه بخبرة واحتراف يظل يعيدها أكثر من مرة تجعل حتى المتفرجين المحترفين يعتقدون أنها «نص محكم». موهبة فاروق حسني ليست في التمثيل، بل في استخدام الممثل النائم بداخله حتى يخرج من المأزق. بالضبط في اللحظات التي يبدو فيها كأنه وقع في شبكة صياد. فيتكلم بيديه وحركات رأسه. وتجحظ عيناه وتتحول الكلمات المنتظمة إلى ما يشبه استغاثات غاضبة موجهة إلى منقذ كبير. هذا هو الممثل. وموهبة فاروق هي وضعه في الموقع المناسب من وجهة نظره على خشبة الأحداث. ليس المهم هنا الملابس التي يرتديها الممثل ولا الماكياج، ولا حتى النص.
الدولة المرتبكة في لحظة الانتقال، تهتم من رأسها إلى اطرافها باللوحة. السرقة بدت فعلاً رمزياً يكشف خطوط الضعف في النظام المنتمي إلى «حداثة» ما بعد الاستقلال. يمتلك متاحف للفنون، لكنه لا ينشر ثقافتها، لا يزرعها، يحولها فقط إلى شواهد لا يتجاوز عدد زوارها التسعة يومياً ولا يعتني أحد بقيمتها إلا اللصوص.
لماذا شُغل الرئيس؟ ولماذا أُشير إلى أن السرقة الكبرى يسرقها كبار؟ هل هناك من أراد نقل ملكيتها إلى كبار العصر المقبل؟
علاقة اللوحة تنتمي إلى عصر الملكية، انتقلت إلى عصر الضباط، وماتت خلف جدران الإهمال والفساد الرأسي والأفقي. والآن ما هو مصير اللوحة في لحظات نقل الملكية الغامضة والمربكة؟