بينما تُطرح قضية الحقوق المدنية للاجئين الفلسطينيين في لبنان على نار حامية لتكون مادة أساسية في السجال السياسي في الآونة الأخيرة، فوجئ أهالي مخيم البداوي باستدعاء أصحاب الصيدليات، بمن فيهم بعض الأطباء، وإبلاغهم بضرورة «قوننة» تراخيص صيدلياتهم خلال ثلاثة أيام أو إقفالها
روبير عبد الله
منذ أن أطلق رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط عبارته المدوية «لم أرَ أغبى من اليمين اللبناني»، في سياق السجال في قضية منح الفلسطينيين حقوقاً مدنيّة وإنسانية واجتماعية، راحت الأحلام الوردية تدغدغ أحلام الفلسطينيين وتعدهم بحياةٍ كريمة وحقوقٍ لا حدود لها في بلد اللجوء، عقب عقود الحرمان الطويلة. غير أن النقاش السياسي والإعلامي يبدو في وادٍ، والإجراءات العملانية في وادٍ آخر؛ إذ لا علاقة لما يجري في البرلمان اللبناني بما يجري على أرض المخيمات. فقبل أيام قليلة، «نُسفت» الأحلام والوعود بالحصول على الحقوق في مخيم البداوي، بعد استدعاء العاملين في الصيدليات، ومن بينهم أطباء وموظفون في مؤسسات الرعاية الصحية، مثل المسؤول عن صيدلية الكرمل التابعة لمركز الشفاء ومسؤولين في الهلال الأحمر الفلسطيني. استدعي هؤلاء إلى أحد مراكز التحقيق في طرابلس، الخميس الفائت، ليجدوا أنفسهم بعد عشرات السنوات من العمل في مجال الرعاية الطبية والصحية تحت خانة المتهمين بممارسة أعمال خارج القانون، ثم عادوا إلى منازلهم مذهولين أمام هول الواقع ـــــ التهمة، عاجزين عن الحركة بعدما وجدوا أنفسهم عُزَّلاً من أية حماية سياسية أو إدارية. وقفوا في مواجهة رجال تحقيق يسألونهم عن المستند القانوني الذي يخوّلهم مزاولة مهنة الطب، وعن رخصة فتح صيدلية، ولو داخل المخيم. وكان الإنذار واضحاً: إما تسوية الأوضاع القانونية خلال مهلةٍ أقصاها ثلاثة أيام، وهذا ما يقع في باب المستحيلات، وإما الملاحقة القضائية.
تجول على أهالي المخيم في استطلاع أولي، فإذا بهم يقولون: اسأل الدكتور جمال قاسم، وهو الطبيب الذي لا يزال بنظرهم يمثل مرجعية طبية واجتماعية. إلى صيدلية الدكتور إذاً. هناك، بدت هيئة الدكتور نهار الجمعة غداة استدعائه إلى مركز التحقيق، كمن انتزعت منه هالته ومقامه. فهو الآن ليس طبيباً، بل متّهم يواجه احتمال محاسبته، ربما بعد أيام قليلة، لمزاولته مهنة الطب وتقديمه الوصفات الطبية للمرضى داخل المخيم، من دون مسوغ قانوني. لكل هذه الأسباب، لم يشأ قاسم التحدث خوفاً من أن يحسب عليه كلامه ويُستدعى مرة أخرى. لهذا، لم يجد الرجل سوى تمتمة بعض الكلمات «فشّة خلق». تمتمة نفهم منها أن «الغطاء السياسي رُفع والجسم الطبي في المخيم بات عارياً أمام صرامة القانون».
بدا الدكتور غداة استدعائه للتحقيق كمن انتُزع منه مقامه
أما صيدلية الخواجة، فقد هاجر صاحبها الشاب إلى كندا، تاركاً إدارة أمور صيدليته بعهدة عمّه الذي رفض الإفصاح عن اسمه خشية تعظيم ملفه لدى دوائر التحقيق. واكتفى الرجل الستيني بالقول إن «الصيدلية تعول أسرتين مؤلفتين من 18 فرداً». يقول العم: «الصدمة قوية لم نستوعبها إلى الآن». ويعلّق على قرار الاستدعاء بأن «الترخيص مستحيل، فنحن لا نملك أوراق ملكية، ولا نملك إجازات في الصيدلة، ولو كنا قد تابعنا في الكليات والمعاهد التي تجيز لغيرنا مزاولة المهنة». باختصار، يتابع: «هم يطلبون الترخيص، وهم يعلمون أن كل مقومات الترخيص غير متوافرة في المخيم». يتدخل أحد الزبائن: «هل المطلوب استقدام لبنانيين لفتح الصيدليات داخل المخيم؟ أم المطلوب القضاء على الفلسطيني من النواحي كلها؟». يكمل أسئلته: «إذا احتاج طفل إلى حبة دواء أو علبة مصل في الليل، فهل علينا مغادرة المخيم للتفتيش عنها في صيدليات طرابلس؟».
الجميع غاضبون، لكن لا أحد يجرؤ على ذكر الاسم، خوفاً من الاستدعاء. هكذا، يتحفّظ المعنيّون مباشرة بملف الصيدليات على الكلام لأنهم واقعون في دائرة الاتهام. وجل اهتمامهم يتركّز على الخروج من ورطة يشعرون بأنهم وقعوا فجأة فيها، وهذا ما ورد على سبيل المثال في مكالمة هاتفية كان يجريها موظف في صيدلية البارد في مخيم البداوي، عندما كان يخاطب إحدى شركات الأدوية على الهاتف قائلاً له: «لا أدري من أين سنسدد لكم الديون المستحقة علينا». هذه الحال الصعبة على الأهالي في مخيم البداوي، وغيرها من المخيمات إن امتدت «قائمة الاستدعاءات» إلى صيدلياتها، لا تبشّر أبداً بالخير؛ فالكثيرون منهم سيحرمون الطبابة والدواء إن أُقفلت الصيدليات. ولن تتوقف الحال على أهالي البداوي، بل ستمتد إلى اللبنانيين الذين يعيشون على مقربة من المخيمات والذين يستفيدون من الخدمات الطبية داخلها. في هذا الإطار، يقول أبو عمر حمود من منطقة الميناء، وأحد زبائن صيدلية الخواجة: «نحن نتحكم ونأخذ الدواء من هون والدفع على التيسير».
بعيداً عن الخائفين من التحقيقات، يبدو أن هناك من سئم التزام الصمت، وقرر رفع الصوت رافضاً الرضوخ لفزاعة التحقيق. ومن بين هؤلاء الدكتور رائد صلاح، مسؤول اللجنة الصحية في البداوي وعضو الهيئة الإدارية في الاتحاد العام للأطباء الفلسطينيين. يروي صلاح حكاية قضية الاستدعاء بتفاصيلها، وهي أنه «استُدعي المعنيون بالملف الطبي في المخيم منذ مدة وطلب إلينا الانتباه إلى الأدوية المهربة والممنوعة، وكان اللقاء ودياً». على أثر ذلك، يتابع: «اجتمعت اللجنة الأمنية في المخيم وأبلغت أصحاب الصيدليات بالأمر، وحمّلتهم كامل المسؤولية، وهددت برفع الغطاء عن أي صيدلية تتعاطى بالأدوية المهربة». وزيادة على ذلك «أوقفنا بيع أدوية الأعصاب في صيدليات المخيم منعاً للشبهة، ورحنا نرسل مرضانا إلى خارج المخيم لشراء تلك الأدوية». لكن المفاجأة، يقول صلاح «كانت في ما جرى الخميس الفائت عندما استُدعي أصحاب الصيدليات إلى التحقيق وجرى التعاطي معنا بأسلوب أمني ـــــ قضائي. هكذا، وضع الجسم الطبي في المخيم في قفص الاتهام، وبلهجة حاسمة قِيل لنا: «كل صيدليات المخيم تحتاج إلى تراخيص. ممنوع مزاولة المهنة، ولو كان داخل الصيدلية طبيب». وفي نظر صلاح إن «المسألة ليست مجرد قضية قانونية، بل هي على علاقة بتوقيت المطالبة بالحقوق المدنية للاجئين الفلسطينيين». وفي السياق نفسه، يسأل الطبيب في الهلال الأحمر الفلسطيني، رأفت النجار «عن كرامة البشر في التعامل مع الفلسطيني، فعندما يستدعى أي طبيب من المخيم ويُحتجَز كأي مجرم أو متهم من الثامنة صباحاً حتى السابعة مساءً، فماذا يسمّى هذا؟». يضيف الطبيب: «لماذا لا يحدد موعد دقيق لمقابلة الطبيب؟ أليس لدى هذا الأخير ارتباطات؟ أليس مسؤولاً عن مرضاه؟». لكن في رأي النجار، «لا تقع المسؤولية فقط على الدولة اللبنانية في الانحدار بمستوى التعاطي مع الأطباء، بل إنه أيضاً غياب التنسيق وانعدام المرجعية في الجانب الفلسطيني، حيث كُلٌّ يغني على ليلاه، لذلك نحن نلوم أنفسنا قبل أن نلوم الدولة». أما في الجانب السياسي، فالمسألة تتخطى ملف الصيدليات لتشمل مجمل الواقع الفلسطيني. فاليوم، «تطرح الإجازات القانونية لفتح الصيدليات»، يقول مسؤول الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في مخيم البداوي، نبيل السعيد: «... وغداً معمل البوظة وبعده المياه والاتصالات، ليصبح الفلسطيني مذنباً من دون أن يدري». ويسأل السعيد «عن مبرر المعالجة بأسلوب عسكري، علماً بأننا تحت سقف القانون اللبناني». ويستهجن الرجل القرارات التعسفية والتوقيفات التي تجري اعتباطياً في المخيم، لمجرد تشابه في الأسماء كما جرى مع مسؤول صيدلية الكرمل، وكما جرى أيضاً مع الطبيب باسم قيس الذي استدعي وهو العاجز عن التنقل بسبب خضوعه لعملية جراحية.


10 صيدليات «خاصة» عاملة في مخيّم عين الحلوة لم تُبلغ بأي قرار من الدولة اللبنانية يمنعها من ممارسة عملها داخل المخيم. «بعيد الشر»، علّق لـ«الأخبار» صاحب صيدلية مفسّراً عدم شمول الصيدليّات العشر بالقرار: «لأن يد السلطة في البداوي قد تكون طايلة». لكن أصحاب الصيدليات أشاروا إلى أن الكفاح المسلح الفلسطيني ولجنة المتابعة الفلسطينية، أبلغا أخيراً أصحاب الصيدليات في عين الحلوة ضرورة عدم بيع أي نوع من أدوية الأعصاب بعد اتساع ظاهرة تناول الحبوب المهدئة أو ما يصطلح على تسميته «الحبحبة أو الهلوسة»