الخميس الماضي، احتفلت لجنة «عائلات لبنان تساند عائلات فلسطين» بمرور 9 سنوات على بداية مبادرتها. فالنموذج الذي صوّب العمل نحو الداخل الفلسطيني استطاع أن يحافظ على جديته، على قاعدة «أنّ الوقوف على الحياد غير مسموح هنا»

فاتن الحاج
بدأت يسما تخطو خطواتها الأولى في منزل ذويها في الضاحية الجنوبية لبيروت. تتهادى الطفلة في مشيتها «المقلقزة». تتعثر مرات عدة. ترسم ابتسامة صغيرة على وجهها الجميل حين يقرر والدها فتح باب الحديقة، فتخرج مُسرعة لتضيع بين ألعابها المنتشرة في المكان.
لا تبدو يسما عابئة الآن لما يدور حولها، لكنّها قد لا تتأخر طويلاً لمعرفة أنّها قبل سنة وشهرين، جمعت كل «نقطتها»، أي الأموال التي تلقتها بمناسبة ولادتها، في صندوق أنيق وأرسلتها إلى أسرة فلسطينية في غزة. إلى طفل من عمرها انتزعت منه آلة الدمار الإسرائيلية نعمة العيش بسلام، بل حرمته من أبسط الحاجات اليومية: المأكل والملبس والمأوى والطبابة.
اطمأنت الطفلة إلى وصول الصندوق إلى هدفه بواسطة لجنة عائلات لبنان تساند عائلات فلسطين المؤتمنة على مثل هذه المبادرات منذ 9 سنوات.
هكذا، لم يستطع عادل الحاج وزوجته ماريا، والدا يسما، أن يقفا متفرجين أمام كل ما يحصل. لم يتحمّل الزوجان أن يصمتا على الظلم، كما يقولان. «مش معقول شو فظيعة صور أشلاء الأطفال في غزة»، يعلّق عادل. «حسينا إنو لازم نقول كلمة حق للإنسانية»، تتدخل ماريا. ثم تشرح قائلةً: «المبادرة كانت تعبيراً عن غضب مباشر من أحداث غزة. لم نتردد في الطلب إلى الأحبة والأصدقاء «اللي منمون عليهم» عدم إحضار هدايا لتهنئتنا بولادة يسما، والاستعاضة عنها بمبالغ مالية رمزية سنجمعها كرمى لعيون أطفال القطاع».
لم يكن الطلب سهلاً على الزوجين، فقد واجهت ماريا أسئلة وتعليقات من نوع «معقول تحشري الناس بهيك طلب، هيدا الشي لايق برأيك؟».
لكن التصميم على المبادرة كان سيّد الموقف على خلفية «من حق كل طفل بالعيش الكريم من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب». نسأل: «هل تنهي مثل هذه المبادرات ظلم العدو؟». يقول عادل: «المبادرات وحدها لا تكفي تماماً كما السلاح وحده لا يكفي والمقاطعة أيضاً، لكن كل منها يمكن أن يساعد على طريقته، فالحياد غير مسموح في مثل هذا الموقف».
أما ماريا فتصر على توجيه رسالة إلى قسم كبير من اللبنانيين يدفعون بلا أسف آلاف الدولارات على أعياد الميلاد لأطفالهم، فلا يتذكرون للحظة واحدة أنّ هناك طفلاً فلسطينياً كان أم عراقياً أو إفريقياً يموت في مكان آخر، أو يتعذب فلا يجد من يكفكف دموعه. ترفض ماريا منطق «النق» ومقولة «بدنا نعيش، وشو فينا نعمل إذا الحكام مش عم يعملوا شي». «فالتبرع من طفلة بيحرّك كل الأحاسيس ويساوي كل مبادرات الأنظمة»، تقول الزوجة بحماسة كبيرة. ثم راحت تشرح كيف «بدأت تعزز الذكاء العاطفي لدى ابنتها الكبيرة لولوا (5 سنوات) وتدعوها، بطريقة تتناسب مع عمرها إلى الوقوف ضد الظلم أينما وجد، وكيف يمكن أن نؤثر، بلفتة صغيرة، على حياة الآخرين».
أما جاد (18 سنة) ونور (20 سنة)، فهما جاهزان كما يقول والدهما الدكتور بطرس روحانا لمساعدة الآخرين « يتعاطفون بسرعة بحكم تربيتنا البيتية». ويردف بعفوية: «أولادي لا يقومون بشيء استثنائي فدعم القضية الفلسطينية وشعبها العربي مطلوب من كل الأولاد اللبنانيين والعرب». يشرح روحانا كيف «التقينا بسيدات لجنة عائلات لبنان تساند عائلات فلسطين بحكم العلاقات الشخصية والاجتماعية التي تربطنا بهن، ثم تطورت المشاركة في كل نشاطاتهن ومن ضمنها مشروع القجة». تتحمس نور للحديث عن «القجة» التي أحضرها أبوها من سنتين، و»قال لنا أن الأموال التي سنوفرها من خرجيتنا الشهرية ستذهب إلى الداخل الفلسطيني». «أحببنا الفكرة لأنّ المساعدة ليست غريبة على عائلتنا»، تقول نور بثقة، مشيرة إلى أنّ «المشروع ظريف ويشارك فيه كل أفراد العائلة وهذا هو الأهم». نور وجاد على يقين من أنّ الأموال ستذهب إلى مستحقيها، عبر اللجنة أيضاً.
هذه اللجنة، كما تقول منسقتها إكرام شرارة، مبادرة أهلية تطوعية نشأت مع انتفاضة الأقصى الثانية وعلى أثر معركة جنين البطولية في 2002. أما المبادرة فأطلقتها سيدات آمنّ «بأنّ الانتصار الحقيقي للشعب الفلسطيني يكون بدعم صمود العائلات الفلسطينية والمقاتلين الشباب الذين يواجهون بلحمهم العاري وإرادتهم الأسطورية الدبابات الإسرائيلية في أرض المعركة».
وبعدما جمعت اللجنة حولها شبكة واسعة من المتضامنين ضمت، في البدايات، عائلات لبنانية ميسورة ومسرحيين وفنانين ومثقفين وجمعيات أهلية، استرشدت ببرنامج طوارئ أطلقته، آنذاك، مؤسسة التعاون (ولفير) الفلسطينية. فالمؤسسة، كما تقول شرارة، اكتسبت مصداقية عالية، بعدما عملت بالتنسيق مع شبكة من المنظمات الأهلية على تنمية القدرات البشرية في فلسطين المحتلة منذ العام 1982.
بداية التعاون كان مع برنامج التكافل الأسري لإسكان الأسر المهجّرة وإغاثتها ومساعدتها في الاحتياجات الأساسية الطبية والاجتماعية والتربوية في جنين، عايدة، عزة، دهيشة وبلاطة.
اختارت اللجنة 200 أسرة من أصل 2000 تعمل معها مؤسسة التعاون «وبدأت الأسر اللبنانية ترسل التكافل لكل عائلة فلسطينية بين 50 و100 دولار أميركي، ومنها من اختار التكافل السنوي الذي يبلغ في حده الأدنى 600 دولار، وذلك عبر حساب خاص».
رفضت السيدات حينها أن يكتفين بالاعتصامات والمسيرات الاحتجاجية، «لأننا محكومون بالأمل ويجب أن نقوم بواجباتنا فحسب من خلال عمل جدي ومستمر سيعطي ثماره، مهما كان متواضعاً، إذا ما قورن بموقف الصمت أو الحياد أو حتى التواطؤ مع المحتل».
«المتضامنون يشعرون بأنهم معنيون»، تقول شرارة، لذا كان العمل على تطوير النشاطات الفنية الشبابية والثقافية التي كانت تواكب الحدث من جنين إلى غزة فالقدس، وقد «نظمنا بالتعاون مع بعض الفنانين احتفالاً استثنائياً للقدس، كما ذهبت

تتكفل العائلات اللبنانية بمبلغ شهري يتراوح بين 50 و100 دولار شهرياً
عائدات بيع لوحات بعض الرسامين للهدف نفسه»
أما ما تتوقف عنده شرارة فهو المساندة في المجالين الطبي والتربوي، فقد ساهمت اللجنة في إعادة ترميم مستشفى العودة الذي دمّر في حرب غزة عبر توفير بعض مواد الإسعافات الأولية.
تلمع عينا شرارة حين تتحدث عن الدعم الذي أرسلته اللجنة إلى ثانوية الفتاة اللاجئة، ما ساعد في تحويلها من مدرسة بدائية إلى مدرسة ممكننة.
كذلك تتحدث منسقة اللجنة عن نشاطات أخرى يذهب ريعها إلى الداخل الفلسطيني مثل العشاوات الخيرية وحفلات الشاي في المنازل، إضافة إلى مبادرات فردية يقوم بها شباب يتواصلون مع أتراب لهم بواسطة شبكة الانترنت ويساعدونهم على طريقتهم.
ويبقى أنّ الدعم الرئيسي الذي تعتمد عليه هذه المبادرة التطوعية هو عائدات الغداء الذي تنظمه السيدات في الخميس الأول من كل شهر، والذي لم يتوقف، طوال السنوات التسع.
تعرب شرارة عن قناعتها «بأنّ القضية الفلسطينية رمز بقائنا وتحتاج إلى نكون متواطئين معها عبر مبادرات جديدة مماثلة لمبادرتنا التي لا ندعي أنّها استثنائية».


استعانت لجنة «عائلات لبنان تساند عائلات فلسطين» ببعض التقارير لمساعدة أطفال غزة بعد عدوان كانون الأول 2008 . فالقطاع يقطنه نحو 800 ألف طفل (56 % من عدد السكان الإجمالي). وقد وصل عدد الأطفال الشهداء إلى نحو 400 طفل، كما جرح 1850 آخرون، علماً بأنّ هذا العدد ازداد في ما بعد لكون البعض كان لا يزال تحت الأنقاض. كذلك لفتت التقارير إلى نزوح نحو 200 ألف شخص من منازلهم ومن بينهم 112 ألف طفل. وتحدثت عن فظاعة أثار الحصار النفسية على هؤلاء، حيث أن الكثيرين يعانون من الكوابيس ومشاكل سلوكية أخرى مثل التبول أثناء النوم وما شابه.