تبدو المخيّمات أشبه بعلب متلاصقة. وغير خافٍ أن شروط السكن العادل غير متوافرة في تلك «العلب» التي تنتشر فيها الأمراض الصدرية والجلدية بسبب امتناعها عن الشمس وضيقها بساكنيها، إلى درجة يصحّ أن يكتب عليها «وزارة الصحة تحذّرك من مضارّ السكن هنا»
قاسم س. قاسم
أن تتحوّل الأمراض التنفسية إلى مرض «روتيني» في المخيمات الفلسطينية فذلك يعني أموراً كثيرة. ولكي تصبح الأمراض الجلدية، مثل الحساسية والطفح الجلدي، شيئاً «طبيعياً» يتقبله المصابون به كأنه «قدر»، فذلك يعني أن المشكلة أكبر. وعندما يصبح شأن الربو شأن الـ«كريب» بمدى انتشاره بين سكان المخيمات، فذلك يعني أن هناك مشكلة تتفاقم من دون أن يلتفت القيّمون على صحة سكان المخيمات إليها. هكذا، تحوّلت أمراض خطرة تتطلّب علاجاً ومتابعة خاصة إلى أمراض «يومية» لا تستدرج من المصابين بها إلا تعليقاً من نوع «شو بدنا نعمل؟». لا بل إنهم عدا عن تكيّفهم معها، عملوا على تبديل أسمائها، ليخفّفوا بذلك عن أنفسهم قليلاً من وطأة الاسم المرعب، فالربو قد يصبح حساسية في الصدر مثلاً أو ضيق تنفس في أسوأ الأحوال.
تدخل مخيم برج البراجنة، وأنت تتجه إلى داخله، تضيق الأزقة أكثر فأكثر كلما اقتربت من وسطه. أما البيوت التي التصق بعضها ببعض كالخائفة، فهي لا تسمح لأشعة الشمس بالدخول. اعتاد الأهالي تلك الأزقة الضيقة، وتكيّفوا مع «متطلباتها»، كما يعتقدون، واخترعوا طرقاً لمواجهة المشاكل اللوجستية التي تسبّبها لهم. لكن، هناك مشاكل أخرى بدأت بالظهور في السنوات القليلة الماضية، وستستمر آثارها الصحية السيئة على أبناء تلك المنطقة لفترة طويلة. تقترب من وسط المخيم أكثر، ومع اقترابك تجد أن أشعة الشمس تخفّ أكثر فأكثر، فالأزقة الضيقة، ضيقة أيضاً حتى على أشعة الشمس. تدخل إلى منزل أحمد الذي رفض الكشف عن اسم عائلته لأسباب أمنية. يقع منزله وسط المخيم، توقيت لقائك به، كان ظهراً. لكن ما إن تجلس في منزل أحمد حتى يخيّل إليك أن الليل قد حلّ. هنا، لا تدخل الشمس بتاتاً إلى المنزل، يشير أحمد إلى جدران منزله، «شايف الرطوبة على الحيطان صيف وشتا هيك» يقول.
الأزقّة الضيّقة ضيّقة أيضاً حتى على أشعة الشمس
تسأله «قديش بتضرب الشمس على البيت بالنهار؟». يضحك الرجل ليجيب «انت في المنزل الآن والساعة 11 قبل الظهر، فماذا ترى؟» يضيف «البيوت المحيطة متلاصقة إلى درجة أن «الحيط على الحيط»، لذلك لا تدخل أشعة الشمس إلى المنزل بتاتاً، ولهذا السبب لا يمكننا أن نقتل الرطوبة». ترك غياب الشمس والرطوبة المرتفعة بصماته على جسد أحمد. يرفع الرجل كنزته، يريك الحساسية المنتشرة على ظهره وكتفيه، «هيدول بدهم شمس ليروحوا، يعني ناطرين الصيفية لننزل على البحر». تترك أحمد متوجهاً إلى منزل آخر بالقرب منه. في منزل لا يتعدى الغرفتين أيضاً، تجلس فادية باركو مع أولادها الستة. الوضع في هذا البيت الصغير أسوأ وخصوصاً مع وجود أطفال فيه، تشعر بالرطوبة بمجرد دخولك، عند أول نفس تأخذه. وصول أشعة الشمس إلى المنزل من «سابع المستحيلات» كما تقول، وبرغم وجود الإنارة فإن الغرفة تبدو معتمة. تأخذك السيدة إلى فرشة طفلتها حنين النائمة. تطلب منك أن تقترب من الطفلة أكثر وأن تضع أذنك بالقرب من صدرها «سامع خرير صدرها؟ هيك كل الوقت بتتنفس». فاديا أخذت طفلتها إلى عيادة الطبيب الذي شخّص بأن «الطفلة تعاني من حساسية بصدرها، ويمكن أن تتأزم حالتها، وصولاً الى مرحلة الربو»، كما قال الطبيب. هكذا، وبرغم إصابة العديد من أبناء المخيم بمثل هذه الحالات، إلا أنه ليس هناك إحصاءات رسمية لعدد المصابين بأمراض الربو والأمراض الجلدية في المخيمات. لكن كيف يمكن التأكد من ارتفاع هذه النسبة؟ الجواب هو عند طبيب المخيم د. عبد العزيز العلي. يجلس عبد العزيز في عيادته على باب المخيم، يؤكد أنه لاحظ «ارتفاعاً في عدد المصابين بالربو، أو ضيق التنفس في المخيم، وخصوصاً عند الأطفال، وذلك جرّاء معاينتي للمرضى». يقول: «الحكيم»، كما يلقّبه أبناء المخيم، إنه يستقبل يومياً «حالة أو أكثر تتعلق بمشاكل التنفس، عدا عن الأمراض الجلدية، هلق إنت وقاعد إلا ما يجي حدا عندو هالمشكلة». هذه الحالات ليست حكراً على د. عبد العزيز فقط، فالأطباء الفلسطينيون يتحدثون في لقاءاتهم عن الظواهر المنتشرة في مخيمهم. يعترف عبد العزيز بأن أغلب الأطباء لاحظوا «ارتفاع نسبة الحساسية الصدرية عند الأطفال، الربو عند الشباب وبعض حالات الاختناق عند كبار السن، لكننا لا نملك أرقاماً وإحصاءات عن عدد المصابين». لكن، ماذا عن العلاج؟ «خليها على الله، في أدوية سعرها غالي، العالم ما بتجيبها، فبتصير تخفف من خطورة المرض على نفسها». يدخل المريض عصام نزال، فيقطع الحديث. يطلب من العلي أن يفحصه «عم يضيق نفسي يا حكيم» يقول له. كأن القدر أرسله! «شو قلتلك»، يقول الحكيم لنا مبتسماً. يسأله العلي «وين ساكن»؟ «عند أبو طاقة» (منطقة في المخيم) يجيبه. يضع الطبيب السماعة على أذنيه. تراقبه. «خود نفس. طلّعو. بعد مرةّ. خير إن شاء الله». يعود الى مكتبه، يعطيه عدداً من الأدوية قبل أن يغادر. يلتفت الطبيب إلينا: «هيدا ساكن بمحل ما بتفوت كتير الشمس عليه، الزاروب يلي بيوصّل على بيتو عرضو تقريباً 30 سم، والرطوبة عندو بالبيت كتير مرتفعة، فصار عنده حساسية بصدره». 30 سم؟ وكيف يدخلون إلى البيت إذاً؟ يضحك وهو يجيب: «جنّابي ولو؟».


«بعد حرب تموز، زادت المشاكل التنفسيّة والصدرية التي عانى منها أبناء المخيم»، يقول المسؤولون في اللجان الشعبية في مخيم برج البراجنة، ويعلّلون ذلك بأنه ناتج من «أثر الصورايخ التي أطلقتها إسرائيل على الضاحية الجنوبية لبيروت». لكن ما زاد الطين بلة بالنسبة إلى الوضع الصحي للسكان هو «ازدحام البيوت بساكنيها، إضافة إلى ضيقها وتدهور الشروط الصحية داخلها». يضيف هؤلاء إنه مع كل ما تقدم من أمراض، فإن السكان يعانون أيضاً من مرض ترقق العظام بسبب عدم تعرض أجسادهم للشمس بما فيه الكفاية».