ألو بيروت
فاجأني الصوت الخارج من هاتفي، وخاصة أن الرقم لم يظهر، وبالتالي لا أذكر عدد المرات التي سألت فيها «مين بحكي معي؟» ولكني أعرف أنها جاوزت الثلاث مرات على الأقل. «بتعرفي ياسين ابن أم ياسين إلي عمل العمايل؟» قال الصوت. ثم «طيب بتعرفي عبد ابن أم العبد؟» أجبت وقتها مع إحساس قوي بأني أعرف من يتحدث معي وبصوت ضاحك وصاخب «مين عم بحكي؟».
وكان الجواب: «أنا علاء» قلت: «ولك والله كنت حاسة»! بداية المحادثة كنت بزيارة لدى بنت خالي، تركتها بدون أن أقول «باي» وذهبت إلى الشارع لأتحدث هناك مع بيروت! وكانت الساعة قد جاوزت العاشرة مساءً...
لا أذكر الكثير من محادثتنا الأولى، أذكر أن أختي مرت بجانبي وأنها أيضاً تحدثت مع بيروت، مع علاء أيضاً. أذكر أنني ظللت مصدومة طوال المحادثة، أذكر أني شعرت بأن الخط كان مراقباً خلال المحادثة من جهة ثالثة، وأن العديد من السيارات مرت بجانبي وأن ركاب تلك السيارات كانوا ينظرون إلي باستغراب كأنهم يسألون: «من هذه التي تتحدث بالهاتف بهذه الساعة المتأخرة؟!»، أو «مع من تتحدث يا ترى؟». وكنت أجيبهم بعيوني: لو كنتم تعلمون. هناك كثير لأذكره، الكثير الذي حُفظ في قلبي ورأسي لأحمله معي تذكاراً لبداية التواصل بين هنا وهناك.
«ألو بيروت» لم تكن جملة لمرة واحدة لقد عاد وتكرر الموضوع، كلما تكرر الاتصال، وفي كل مرة يتجدد العهد على أن نوصل بين هنا وهناك، بين نحن و .. نحن، أن نتواصل مع ذاتنا. استمرت محادثتنا الأولى مدة نصف ساعة قضيت معظمها مصدومة! أما المحادثات التي تلتها فقد تنوعت وتنوعت أوقاتها. أما حديثنا فكان كحديث أي صديقين يخططان لحفلة عيد ميلاد أو سهرة تجمع الشلة كلها في مقهى يقع على بعد تقاطع شارعين.
الجليل ـ أنهار حجازي

ألو فلسطين

ارتجفت يميني وأنا أسحب البطاقة من الهاتف العمومي. فكرت للحظة «لمَ لا أحاول الاتصال؟». حتى المحاولة مرعبة. ماذا لو أُلقي القبض عليّ بتهمة التخابر مع العدو؟ والعدو هنا هو أنت يا صديقتي. لا أعرف كيف ارتسمت كل هذه الحدود والخيوط العنكبوتية في أدمغة البشر حتى تصبحي يا ابنة الجليل عدواً لقاطن بيروت.
منذ أشهر التقينا. لا لم نلتقِ. كتبنا هنا على صفحات الجريدة. كنت أول الوافدين من فلسطين. ولحق بك آخرون من غزة والأردن. هاتفناهم وهاتفونا. أما أنت فممنوعة عنا. لأنك موجودة في فلسطين. وفلسطين محتلة من عدو. فُصنفت يا صديقتي في خانة العدو. المهم أني خرجت من الغرفة الزجاجية. وسرت عائداً إلى المنزل محاولاً الوصول قبل أن تغفو الوالدة. وعدتها بسهرة منذ أسابيع ولكني أركض كل ليلة كي أصل قبل أن تغفو. ولكنها تغفو وتصحو بابتسامة لاعتذارتي في الصباح. مع أنها مجرد تبريرات مملة. وفجأة رأيت صديقي من أيام الدراسة.
سلام وكلام وذكريات. ثم حديث عن زملاء آخرين. سليم في مكتبته. إحسان في دبي، هاني في كندا، أما أحمد فقد فضل صحراء قطر على صحراء الكويت. قلت مازحاً «بتعرف لازم نجتمع كلنا بشي سهرة». ونسيت غرام صديق الطفولة بالأشياء الغريبة. مد يده إلى جيبه وأخرج بطاقة مغلفة. وهز يده قائلاً: بإمكاننا عبر هذه البطاقة وبعد تحميل برامج صغيرة على الكومبيوتر الموصول بالإنترنت الاتصال بكل أنحاء العالم، والتكلفة رخيصة، وعندي أرقام للكثيرين».
صمتّ للحظات. ثم سألت: وفلسطين؟ أجاب لا أعرف. فلنجرب. وبالفعل صعدنا إلى منزلي، حملنا البرنامج، طلبنا الرقم. ولم يخذلنا الإنترنت المتأثر بمزاجية الطقس، ولأول مرة تمتمت: ألو؟ فلسطين؟
بيروت ـ علاء العلي