عام مضى على الحرب الإسرائيلية الطاحنة. حرب دفعت فيها قوات الاحتلال بكل ترسانتها القاتلة والمدمّرة ضد مدنيين عزّل في القطاع الساحلي الصغير. حرب غابت عنها القيم والأخلاق، وكانت نتيجتها كارثية على الغزيّين، الذين لم يكن مرور عام على الحرب كافياً ليمحوَ من ذاكرتهم الحية مشاهد القتل والدمار، ولا تزال تجاربهم الشخصية تنزف دماً وحزناً على أحبائهم
غزة ــ قيس صفدي
خلّفت الحرب الإسرائيلية في كل بيت حكاية، فكل الغزيّين نالهم نصيب من جرائم الاحتلال، بين الجرح والتشريد والتدمير، وتبقى جريمة القتل الأشد وطأةً في نفوس ذوي الضحايا، فهذه أمّ لفظ ابنها أنفاسه الأخيرة بين أحضانها، وذاك أب فقد نجلَيه في ضربة واحدة، وتلك طفلة فقدت أمها وإخوتها وأعمامها وثلاثين فرداً من عائلتها في جريمة إبادة جماعية.

لن أنساه أبداً

حكاية عائلة الجوجو، واحدة من بين مئات وربما آلاف الحكايات التي تكوّنت منها صورة الحرب الدموية. الأب أبو عبد الله الجوجو لم يكن في المنزل في تلك اللحظة التي أصيب فيها نجله عبد الله بجروح بالغة، فتطوّع أحد الجيران لإبلاغه بالخبر. لم يملك أبو عبد الله لحظتها من أمره، إلّا الصراخ والمناشدة عبر أثير إحدى الإذاعات المحلية. كان الأمل يحدوه بأن تحمل مناشدته الحياة لابنه، لكن قوات الاحتلال كانت تمعن في القتل بكل وسيلة، فمنعت سيارات الإسعاف من الوصول إليه في حي تل الهوا المحاصر في مدينة غزة، ليستمر عبد الله في النزف بين أحضان والدته المكلومة ويرتقي شهيداً.
جرح أم عبد الله لم يندمل بعد. لم تبكِ مع السؤال عن مشاعرها، فاحمرار عينيها يشير إلى بكاء مرير لأيام وشهور، وتقول: «مرت الأيام، بعضها كان عادياً ومرّ بهدوء، لكن عبد الله لم يغب عن بالي لحظة واحدة، وأبكيه بمرارة كلّما تذكّرته ينزف بين أحضاني حتى فارق الحياة. مرور عام أو عشرات الأعوام لن يُنسيني ابني، كل شيء يذكّرني به، وكل مناسبة من دونه تذكّرني به».
مرت عائلة الجوجو بأوقات عصيبة، وهي محاصرة في جزء من المنزل، فيما الأب كان يقضي أياماً في عمله لا يرى خلالها زوجته وأبناءه. حملت أم عبد الله على عاتقها عبء الاعتناء بأفراد عائلتها الستة. افترشت المطبخ معهم بعدما قُطعت الاتصالات ولم يعد التواصل سهلاً مع الأهل والأحباب.
أخبرت أطفالي أن أخاهم عبد الله نائم ولكنّني كنت متأكدة أنها آخر اللحظات التي أراه فيها
الشعور بالخوف دفع أحد الجيران لمناداة عبد الله، ليخبره بأنهم سيهربون وأنهم بحاجة إلى سلّم. حاول عبد الله أن يناوله السلم لكنّ رصاصة إسرائيلية عاجلته فسقط مضرّجاً بدمائه، وهو يطلق صرخة مدوّية انفطر لها قلب الأم.
وتصف أم عبد الله، والدموع تترقرق في عينيها، ذلك المشهد المؤلم كأنها لا تزال تعايشه لحظة بلحظة: «حملت عبد الله مع إخوته ووضعته في حضني وهو ينزف. حاولت وقف النزف لكن لم أفلح في ذلك. أحسست بالدماء تقطر على جسدي وساقي. قلبت ابني فوجدت مخرج الرصاصة في ظهره. لم أستطع الصراخ ولا البكاء. خشيت أن أُرعب باقي أبنائي، حاولت طمأنتهم ولكن حزن وغضب الكون كله ملآ قلبي. فقد استُشهد ابني في حضني. اكتفيت بلمسات حنونة وأنا أُخبر أطفالي أن أخاهم عبد الله نائم، ولكني كنت متأكدة أنها آخر اللحظات التي أراه فيها».
وتقول أم عبد الله: «عندما انسحب جيش الاحتلال وعاد زوجي إلى المنزل لم يصدّق أنه مات. حاول إفاقته بضربه على وجهه، ثم حمله إلى سيارة الإسعاف وهو يصرخ بالمسعفين: اسعفوه... اسعفوه، وهم يبكون ويؤكّدون استشهاده. لم أغسل ثيابه منذ الحرب، ولا أزال اشتمّ رائحته منها. وكم أشتاق إليه. كل شيء كما هو، حتى كرته علّقتها على الحائط. فهذا ما بقي من ابني». مسكينة أم عبد الله فقدت ابنها ظلماً وقهراً بين أحضانها، وكتمت حزنها وصرختها في قلبها رأفةً بباقي أبنائها الصغار.

جرائم الفوسفور الأبيض

في الحرب أيضاً، كان لعائلة الراعي حكاية. صرخات الأطفال والنساء الذين خنقهم الدخان والغاز المنبعث من قنابل الفوسفور الأبيض لم تكن كافية حتى لا يصبّ العدو مزيداً من ظلمه عليهم، حتى في محاولتهم للهروب والنجاة بأنفسهم لاحقهم بقذائفه حتى باب البيت، فلم يكن أمام العائلة من طريق للنجاة سوى شرفة المطبخ الصغيرة المطلة على منزل الجيران.
الجدة أم أكرم الراعي جلست وسط أحفادها، هذه المرة وهم متعافون بعد إصابتهم بقنابل الفوسفور. تمنت أن تكون تلك الأيام قد مرت ولن تعود أبداً، لكن من يضمن ذلك؟ تتساءل: «من ينسى تلك اللحظات؟.
وتضيف أم أكرم: «في أواخر أيام الحرب كنا نتجمّع في الطابق الثاني من البناية. كانت المرة الأولى لاجتياح حي تل الهوا. وألقى جيش الاحتلال قنابل فوسفورية سقطت علينا، وفجأةً وجدنا كل شيء حولنا يشتعل، حاصرتنا النار والدخان من كل الجهات». وتتابع: «لم يكن باستطاعتي أن أرى نفسي من كثافة الدخان. كان طعمه مرّاً جداً في الحلق. أُصبنا بالغثيان وأصبحنا جميعاً نتقيّأ. كنا ننادي بعضنا بعضاً لنطمّئن إلى أننا بخير، ونحاول رفع الصغار عن الأرض حتى لا يحترقوا من الكتل النارية التي يُحدثها انفجار القنابل الفوسفورية».
محاولات أم أكرم وأفراد عائلتها لم تحمِ الصغار من حروق الفوسفور. وتقول: «كنا نحاول إطفاء الحروق بالماء، لم نكن نعرف أن الماء يزيد الإصابة. أصيب ابني وزوجته وطفلاهما بحروق فوسفورية». تتابع «كنت أسمع صوت أحد أحفادي وهو يختنق بسبب الدخان. حملته وتوجّهت به نحو المطبخ الذي كان يحترق أيضاً. كان لدينا برميل من الماء. كنت أضع رأسه فيه حتى أخفف حدّة الدخان عنه. كان لا بد من الهرب، وعندما توجّهنا إلى باب البيت لنخرج أُطلقت قذيفة فوسفور أخرى على مقربة منا فاشتعلت النيران في مدخل البناية، ولم نجد سوى شرفة المطبخ للهرب».
لم يحمل شروق الشمس الأمان لهم للخروج من الحي، بل حمل لعائلة الراعي صدمة كبرى. وتقول أم أكرم: «عندما نظرنا إلى أرجل المصابين كانت ذائبة. كان عظم ساق حفيدي ظاهراً للعيان. أصبحنا نصرخ ونبكي من هول ما رأينا. وحملنا المصابين إلى المستشفى، حيث أكد الأطباء أنها إصابات فوسفور».

إبادة جماعية

نجت عائلة الراعي من موت محقّق. واطمأنت إلى أن أفرادها سالمون، لكن ألماظة السموني لا تزال الغصّة تخنق صوتها كلّما روت شهادتها على مقتل نحو 30 فرداً من عائلتها من دون ذنب. هذه الفتاة ذات البشرة السمراء لم تتوقف معاناتها عند الجريمة التي ارتكبتها قوات الاحتلال، ولا يزال ألم الوحدة والفراق يسيطر عليها وينغّص عليها حياتها.
كل شيء جميل في حياتي قتله اليهود في الحرب ولم يبقَ لي شيء
الجريمة كانت أكبر من أن تنسى، وذاكرة ألماظة تختزن التفاصيل كأنها وقعت بالأمس، وتقول: «كنا نجلس معاً في غرفة واحدة. استهدفنا جيش الاحتلال بقذيفة. وجدت الجميع بعدها بعضهم فوق بعض. كان المكان مكدّساً بالجثث. صرخت على أمي فلم تُجب. وعلى إخوتي واحداً واحداً فلم يجيبوا، وغرقت الغرفة بالدماء. جميعهم استُشهدوا. جثة أمي كانت تحت الركام مع إخوتي وأقاربي، بعدما انهار سقف الغرفة عليهم».
ولم تتمالك ألماظة نفسها وبكت إلى حدّ النحيب، وهي تكمل شهادتها المروّعة، وتقول: «أمي التي كانت تلبسني وتمشط شعري قُتلت. إخوتي الذين ألعب معهم قُتلوا. ابن أخي الذي كنت أحمله وأشتري له حلويات ولُعباً قُتل. أعمامي الذين كنت أزورهم قُتلوا. كانو يمزحون معي ويطلبون مني أن أُغني لهم أغاني الأطفال. جميعهم قُتلوا، وكل شيء جميل في حياتي قتله اليهود في الحرب، ولم يبقَ لي شيء. ثلاثون شهيداً من عائلتي. من بقي لي؟».

شهيدان شقيقان

كانت صدمة نهرو الريس مضاعفة. عندما هرول إلى المستشفى بعد سماعه بنبأ إصابة نجله هشام وجده جثة هامدة، وقبل أن يفيق من صدمته باستشهاد هشام، باغته الطبيب باستشهاد نجله الثاني علام، الذي لم يكن يعلم بإصابته ووجوده في المستشفى.
استُشهد نجلا نهرو، وكذلك ابن شقيقه في الضربة الجويّة الأولى التي أشعلت شرارة الحرب. ويقول الريس: «كنت في عملي عندما اتصلت بي زوجتي لتبلغني بنبأ إصابة ابني البكر هشام فتوجّهت على الفور إلى مستشفى الشفاء كي أطمئنّ إليه، وهناك شاهدت جثته لا حراك فيها، ولم تكن تخلو من ثقوب غائرة في أنحاء جسده بفعل شظايا الصواريخ، وما هي إلا لحظات حتى وجدت شقيقي إلى جانبي يواسيني ويصطحبني إلى قسم العناية الفائقة في المستشفى، من دون أن أعرف سبب ذلك، فكنت لحظتها أسير على غير هدى إلى أن استوقفنا أحد الأطباء وقدم إليّ التعازي، فظننت أنه يعزّيني بابني هشام، لكنه تمنّى لي الصبر على استشهاد ابني الآخر علام».
منذ استشهاد نجيله والريس يلوذ بنفسه كثيراً ليسرح بخياله، ويستعيد شريط ذكرياته مع هشام وعلام. ويقول: «في لحظات العزلة إخالهما يحدّثانني عن مشاكساتهما مع أصدقائهما، ويطلبان مني على سبيل المزاح أن أزوّجهما».

شرك الهدنة

عبد الحي عبد ربه تعافى أخيراً من جروحه البالغة التي أصيب بها خلال الحرب، لكنّ جرح قلبه الذي انفطر حزناً على استشهاد زوجته وابنه البكر سفيان لم يندمل، وصورة ابنه لا تفارقه، وهو يراه ماثلاً أمامه في حركات ومشاكسات حفيده، الطفل عبد الحي، نجل الشهيد سفيان. ويستذكر عبد ربه الجريمة، ويقول: «خرجت في أحد أيام الحرب مع زوجتي وابني خلال فترة الهدنة التي أعلنها الاحتلال للسماح للمدنيّين بالتسوّق والتزوّد باحتياجاتهم، وتوجّهنا إلى أحد محالّ البقالة، وكعادته القائمة على الغدر والمباغتة لم يحترم الاحتلال هدنته المعلنة، وقصفت الطائرات الحربية محل البقالة بصاروخ استُشهد على أثره ستة أشخاص، بينهم زوجتي وابني سفيان، وأصبت أنا مع تسعة آخرين».
ويقول عبد الحي عبد ربه إن ذكريات الحرب ستبقى خالدة في أذهان كل من عايشها أو اكتوى بنارها، فحفيدي لن ينسى أن الاحتلال قتل والده وحرمه عطفه وحنانه، مضيفاً إن الحزن يعتصر قلبه كلّما سمع حفيده عبد الحي ينادي على كل عمّ من أعمامه «بابا».


كوابيس وأحلام مفزعة