strong>وائل عبد الفتاحتعيش مصر بين القلق والأمل. القلق يدفع قطاعات عريضة للبحث عن مساحة، والأمل يتسرب عشوائياً لبناء بلد حقيقي، والمسافة بين القلق والأمل شاسعة وتنمو وسطها غابات تثير الرعب من المستقبل

نقابة الصحافة والتغيير الممنوع



تظاهرة أو ما يشبه ذلك أول من أمس على بوابة نقابة الصحافيين. آلاف يريدون حجز فرصة في مشروع إسكان النقابة. صراع على المساحات الكبيرة والصغيرة. أحلام في بيوت تخرج من ضيق المدينة المزدحمة أو تخطف فرصة في حرب المساحات (بيوت وأراض ووظيفة وثروة) المشتعلة سرّاً بين الجميع في مصر.
حرب على ملكية العقارات تكشف عن قلق دفين من المستقبل. ورغم أن أزمة الإسكان لم تعد بالحدّة نفسها التي عكستها أفلام السينما المصرية في السبعينيات والثمانينيات، إلا أن الحرب الأخيرة هي من نوع جديد وكاشف عن القلق العمومي من «حراك اجتماعي وسياسي» فوضوي غالباً، وبين قوى غير متكافئة، وفي ظل خلل خلقته أنانية مفرطة اجتاحت النخبة القريبة من الحكم ونقلت عدواها إلى شرائح مختلفة يقودها القلق إلى التحرك بغريزة الاقتناص.
الشطّار التقطوا القلق والغريزة وحققوا منها «الأعجوبة المصرية»، حيث يستمر ارتفاع أسعار العقارات والأراضي رغم الأزمة المالية. هذه علامة سياسية على أن من لا يستطيع صناعة الأمل في التغيير يُرضي قلقه بالطريقة المتاحة.
هكذا يتجاور الأمل والقلق في نقابة الصحافيين مثلاً. القلق على مساحة البيت أشرس بكثير من الأمل في تغيير أوضاع النقابة. انتخابات النقيب الجديد ستبدأ بعد أيام. النظام ومَن حوله يريدون إغلاق باب الأمل. سينجح مَن يريدون في كل انتخابات. هذه رسالة يلحّ عليها النظام على نحو لافت للنظر «لا بديل من الوضع القائم».
مرشح الحكومة مكرم محمد أحمد قديم وعتيد في المهنة والنقابة. مرشح الممكن والباب المغلق. وضياء رشوان ليس فقط مرشح الشباب أو التيار المستقل، لكنه مرشح الأمل. الأمل في التغيير وفتح الباب على تجربة أفكار وشخصيات أخرى. الأمل ليس وعداً نهائياً بحل المشاكل. الأمل هو فتح الباب المغلق منذ سنوات على اختيارات محدودة وأسماء تدور في دوائر ضيقة. نقابة الصحافيين تنفست قليلاً عندما وصل جلال عارف قبل سنوات. كان أول نقيب محسوب على المعارضة، وأتاحت طبيعته الهادئة الفرصة لهواء جديد جعل من نقابة الصحافيين منصة للاحتجاج والحرية في مصر.
لكنه لم يكن نقيباً قوياً أو قادراً بالمعنى الذي حققه الراحل كامل زهيري (نقيب نقباء الصحافيين) ضد رغبة السادات في تحويل النقابة إلى نادٍ. الرغبة تحققت بعد ذلك على يد مرشحي الحكومة.
ورغم أنه لم تكن، في وقت كامل زهيري، المسافة واضحة بين (مرشح الحكومة) و(مرشح الاستقلال)، كما هو الآن (لأن الصحافة المستقلة لم تكن قد وُلدت بعد)، إلا أن المعيار الأساسي في الاختلاف كان: استقلال المهنة.
كامل زهيري لم يصنّف نفسه بعيداً عن النظام والحكومة، لكنه وقف ضد تحويل الصحافة إلى جيش دفاع عن الرئيس ونظامه وحكومته. تحرير المهنة كان الخط الفاصل بين المرشحين. والحكومة لم تهدأ طوال عصر مبارك في خطة السيطرة على النقابة وتحويلها إلى نادي الباحثين عن علبة سمن أو زيت.
لم يكن الهدف السيطرة على الصحافيين فقط، لكن تأميم مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني ونزع أسلحتها لحماية مهنة تؤدي دوراً في تقليم أظفار السلطة التنفيذية. النقابة القوية تعني شيئاً أكبر مما تحقق في سنوات جلال عارف.
في هذه السنوات سيطرت رياح التسييس العمومي. التيارات الوليدة في معارضة النظام والاحتجاج على سياساته، وجدت في سلالم النقابة منصة الحرية الوحيدة. وهذه مساحة حاربها مكرم ومجموعة من مجلس النقابة نجحوا في فترة الملل من مرحلة «التسييس» العمومي.
النقابة جربت العودة إلى الحكومة ومرشحيها. جربت العودة إلى الباب المغلق ولم تتحسن شروط المهنة ولم تتحقق طفرة ملحوظة في «كرامة» الصحافيين أو في شعور النظام بأن النقابة قوة مستقلة أو رقم في معادلات المجتمع المدني. لهذا، فإن الخروج من دائرة مرشحي الحكومة هو الحد الأدنى أو الأمل في تجربة أفكار جديدة تنقل النقابة هذه المرة من التسييس العمومي إلى التسييس المهني.
البلد كله مستعد أو متوتر لتغيير الحاكم (في انتخابات الرئاسة ٢٠١١ وبعد ٢٩ سنة من حكم الرئيس مبارك). تبدو مصر بلا بديل حقيقي للنظام المقبل. كأن النظام البديل يولد في لحظة أو بعد ضغطة زر الإصلاح السياسي.
طول انتظار التغيير وثقل الوضع القائم يبثان اليأس و«استعجال» البديل. كذلك، فإن فكرة البديل مزعجة. البديل يعني عند الغالبية شخص أو منظومة أخرى تستبدل المنظومة الحالية. وهذا بالضبط سر الارتباك في المرحلة الانتقالية.
التغيير يحتاج إلى مجتمع مدني قوي. الأمل المنتظر هو تحرير النقابة من قبضة دولة «هرَسَت» كل مؤسسات المجتمع المدني. النقابة ضعيفة تحت قبضة النظام وفي انتظار رشوته الدائمة. وأحلام الخروج من هذا النفق هي الأمل في تكوين نقابة قوية. ليست بقوة الموقف السياسي، لكن بقوتها كياناً سياسياً يصنع نديته مع النظام والحكومة. وهي ندية لا تصنع بلمسة أو بقرار فوري. ندية تصنعها إرادة سياسية بصناعة كيان قوي. وليست فقط منصة احتجاج أو موقعاً مختاراً لمعارضة النظام.
هذه هي النقطة المهمة في انتخابات نقابة الصحافيين وكل انتخابات مقبلة. كيف يمر تيار التغيير الحقيقي، لا تيار الفورات السياسية. مرحلة «الاحتجاج» مهمة، لكنها ليست الهدف والمنى.
نحتاج إلى فسحة أمل تتفكك فيها قبضة النظام، ويكون لدى الصحافيين القدرة على التجربة. السر في الديموقراطية هو القدرة على تجريب اختيارات متعددة والثقة بأن لا أحد في هذا العالم يحمل الحل السحري الكامل. ولا التغيير معجزة أو البطل المخلص.تحتاج الصحافة إلى فرصة مهمة لتجريب دم جديد وإرادة تسعى إلى نقابة تهتم بالمهنة لا بالموقف السياسي فقط.
تسييس النقابة في هذه المرحلة ضروري. التسييس بمعنى يختلف عن مشاركة النقابة في حركات الاحتجاج، لكن في إعادة بناء النقابة لتكون مؤسسة مجتمع مدني تعيد التوازن للعلاقة بين السلطة والمجتمع.

البرادعي وديناصورات الخلود



«البرادعي لا يصلح». هكذا بدأت الصحف القريبة من النظام حملتها على الترشّح الرئاسي للمدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، الذي انتهت ولايته قبل أيام
بينما يلملم محمد البرادعي أوراقه في الوكالة الدولية للطاقة الذريّة، اشتعلت حملات في مصر تطالب به مرشحاً في انتخابات يختار فيها المصريون رئيس الجمهورية، وفق تعديلات سمحت بالترشح لكنها وضعت أسواراً ضخمة.
الأمل في البرادعي مثير للاهتمام. فالرجل لم يمارس السياسة في حياته بالمعنى الذي يجعله مرشحاً لإدارة دولة قديمة ومركزية. إنه آتٍ من عالم المنظمات الدولية، ومن رئاسة متغيرة، ليست أبدية. كيف سيدخل الصراع مع ديناصورات، رغم شيخوختها، تشتهي الخلود؟
صحف النظام بحثت في ملفات البرادعي وعدّته هدفها الرئيسي. قالت إنه ليس خبيراً بالسياسة. وأشارت إلى أنه «مزدوج الجنسية» وبالتالي لا يصلح للترشح دستورياً.
استهداف البرادعي اشتعل بعد الرسالة التي كتبها رداً على طلبات شعبية بالترشّح. حملات على «فيس بوك»، وعلى مواقع ومدونات سياسية تبحث عن أملها في الرجل المنضبط القليل الكلام الذي لم تشتره قوى عظمى طبقاً لمعايير مهنية. كذلك هو من خارج المجال كله، لا اشترك في فساد اللعبة ولا توظف في دوائر تعمل في خدمة النظام، ولو من الخارج. البرادعي أمل من الخارج. اقترح حزب «الوفد» انضمامه إلى هيئته العليا (وهو شرط الترشح في تعديلات مبارك على المادة 76). الحزب الدستوري سبق الوفد، لكنه أقل شعبية وفعالية في الحياة السياسية.
موجات الأمل تبحث عمّن يولّفها. والرجل حقوقي خبير بالقواعد والمعايير أكثر من خبرته بالسياسة وكاريزما المرشحين وجاذبيتهم السياسية باتجاه أمل الخروج من نفق السلطة الخالدة، وهذا ما جعله يكتب بياناً يطالب فيه بتعديل الشروط أولاً، قبل الانتخابات. وزاد البرادعي وطالب بدستور جديد يستند إلى الحرية وحقوق الإنسان المعمول بها دولياً. قال: «ينبغي أن تُجرى الانتخابات تحت إشراف الجهاز القضائي التام، وبحضور مراقبين دوليين من الأمم المتحدة لضمان الشفافية». وقال أيضاً إن الترشح للمنصب يجب أن يكون «متاحاً لجميع المصريين».
الرجل الآتي من خارج منظومة تورطت كل أطرافها في اللعبة الفاسدة، أزعج نظاماً يريد إغلاق باب الأمل. جنرالات الدفاع عن النظام في الصحافة وصفوا طلبات البرادعي بالأوهام، وفتحوا ملف الجنسية المزدوجة ليعطلوا ما تصوروه الرغبة في كرسي الرئاسة.
البرادعي حصل على نوبل السلام، وعقليته تكونت بعيداً عن ذبذبات مسرح السياسة في مصر، ولا يتقن لغة السياسة الحارقة. جاء البيان غامضاً ويميل إلى فتور وبرودة لا تشفي شوق الملايين إلى طرف قوي في معركة ترفع أغطية ثقيلة عن جسد السياسة.

«أنت ابن مين؟»الوأد التكنولوجي هو استعداد دخول معركة البقاء في المستقبل بقوة الذكور. وهي خرافة تكشف عن طبيعة المعركة. البدائية المعتمدة على قوة وعنف لا مكان فيها للسياسة. البحث عن قوة الذكور تتزامن مع صعود مكانة العائلة في الصراعات السياساية والاقتصادية.
العائلة هي وحدة الصراع الآن: «انت ابن مين؟» و«انت مش عارف أنا ابن مين؟» و«حضرتك ابن مين؟». أسئلة حاسمة في أي معركة، من الصراع على مكان السيارة، إلى اقتناص أرض الدولة بملاليم.
العائلة لا المجتمع. العصبة لا الحق والمساواة. هذا ما يجعل للذكور احتياجاً يعبّر عن القلق في حرب غير معلنة. فلا عائلات بدون ذكور أقوياء. ينتقل القلق من الارستقراطية المالية إلى الطبقات الشعبية بسرعة رهيبة وتصبح «العزوة» هي سر البقاء في معركة فوضوية.
بدأت عودة نفوذ العائلة مع السادات، التي وجدها الطريقة الوحيدة لسيطرة دولة عبرت بصعوبة من حكم عائلة محمد علي وتعثرت في منتصف الطريق لتكون جمهورية يحكمها الشعب.
الرئيس يريد السيطرة بأسلوب يمزج بين فاشية هتلر وثقافة ريفية تضع العائلة في أعلى مراتب التكوينات السياسية والاقتصادية.
العائلة هي المؤسسة القابلة للتحقق. الدولة هي العائلة. وبعد قليل تحولت العائلة إلى دولة تسعى إلى حماية الرئيس. ومن الرئيس الذي عاد بالعائلة لتكون محور القوة إلى خليفته (مبارك) الذي وجد نفسه في البداية مطالباً بالتقشف والزهد أمام الناس، لكنه بعد 29 سنة أصبحت عائلته هي محور اللعبة في السياسة والبيزنس.
الذكور يريدون الوراثة. والإناث يلعبن من وراء الستار. صورة مملوكية، لكنها تترجم عند الطبقات المرهقة بأنها قانون الواقع. وهذا ما يعيد ظاهرة الوأد، بعدما اختفت مع رغبة دولة التحرر الوطني في صنع عائلة حديثة ومجتمع يصنعه الرجال والنساء معاً. كانت هذه علامات مجتمع صاعد يضع أوروبا موديله القوي. لكن بعد الهزيمة لمعت النوستالجيا وصنعت من الموديل القديم (الذكوري العصابي) أفقاً للدفاع عن النفس. هذه القوى الذكورية هي قلب الزيادة السكانية التي قُدِّرت أخيراً بأنها مليونان سنوياً، ما يعني أن القلق من المستقبل لا يمنع من الإنجاب، ويعني أيضاً استمرار التفكير في أن «القوة الضاربة في مصر هي القوة البشرية». وهي خرافة أخرى لا تزال تحاصر التطور في مصر.