Strong>خبراء اقصاديّون يشكّكون في جدّية الحكومة في خفضههناك سؤال يطارد بعض الاقتصاديّين، كيف يمكن أن يتقلّص عجز الميزان التجاري في اقتصاد ريعي بامتياز؟ أحجية طرحها البيان الوزاري من خلال التزامه بالسعي إلى تقليص العجز في المبادلات التجارية، فهذا السعي يفترض أن يقوم على التدخّل للحدّ من الاستهلاك، وتقوية الإنتاج وتعزيز قدراته التصديرية، أي تغيير النموذج القائم

حسن شقراني
«السعي إلى تقليص العجز في مبادلات لبنان الخارجيّة»، لم يكن المراقب يحتاج إلى أكثر من هذه العبارة في البيان الوزاري، ليبدأ بالتساؤل عن النوايا في شأن النموذج الاقتصادي الذي تديره الحكومة، فالنموذج القائم، الذي يتغنّى به الجميع، عن جهل أو دراية بالمصالح الكامنة فيه، ينسجم كثيراً مع ظاهرة انفلات الاستهلاك، وطغيان الريوع على حساب الإنتاج، وبالتالي الاستمرار في تصدير البشر للحصول على تدفّقات مالية مهمّة.
بمعنى آخر، عمل النموذج كما يجب أن يعمل، ونجح في تحويل اللبنانيين إلى صادرات تعوّض العجز في حسابه الجاري، أو حساب تعاملاته مع الخارج. وبمعنى أوضح لم يعد هذا النموذج قادراً على العمل من دون فاتورة باهظة تتمثّل في العجز الهائل في ميزانه التجاري، ولا سيّما أن النشاط الاقتصادي بات يرتكز على الخدمات البسيطة، المصرفيّة، الفندقيّة، السياحيّة، الترفيهيّة... فهذه الخدمات باتت تمثّل نحو 75% ه من الناتج المحلّي الإجمالي. فيما تقبع الزراعة في أسفل الهرم بنسبة 5%، والصناعة في الوسط بنسبة 20%.
هل هناك توجّه نحو إعادة توليف هذه النسب؟ العبارة المذكورة في البيان تفترض ذلك، لسبب بسيط: خفض العجز في الميزان التجاري يعني إمّا زيادة الصادرات أو خفض الواردات، أو فعل الاثنين معاً. وفي الحالات الثلاث هذه هناك حاجة إلى تنمية القطاعات الإنتاجيّة الحقيقيّة. فما هو مدى واقعيّة هذا التوجّه؟

صعوبة قلب الموازين

«يمكن تقديم تفسير عام فقط» لما ورد في البيان الوزاري في ما يتعلّق بالعجز التجاري، يقول توفيق كسبار. فوفقاً لهذا الخبير الاقتصادي، تحاول الحكومة العمل على «أساس تشجيع الصادرات وخفض الواردات». وهو المنطق التقليدي.
غير أنّ كسبار يوضح أنّ فعل ذلك صعب لأنّ «نتيجة المعاملات التجاريّة تاريخياً كانت سلبيّة».
صعوبة يمكن رصدها في رؤية المحلّلين، ومن خلال دراسة الأرقام الأخيرة. فرغم أنّ الصادرات نمت بين عامي 2004 و2008 بنسبة 99%، فإنّ الواردات نمت في المقابل بنسبة 72%، ما أدّى إلى استمرار تنامي العجز التجاري، الذي ارتفع من 7.6 مليارات دولار إلى 12.6 مليار دولار، أي إنّ معدّل العجز إلى الناتج المحلّي الإجمالي ارتفع من 35% إلى 43%.
فهل يمكن قلب الموازين فجأةً؟ أي تحويل اقتصادنا إلى منتج، بعجز تجاري متّجه نحو التقلّص؟
إذا لم تجرِ «معاينة هذا العجز الهائل في المبادلات التجارية فلا يمكن معالجته أبداً»، رؤية يشدّد عليها وزير المال السابق جورج قرم، الذي يقول لـ«الأخبار» إنّ طرح الحكومة يفترض «معرفة سبب العجز، وهنا القصّة طويلة». لماذا؟ «لأنّ اقتصادنا ريعي وكسول، ونحن لسنا مجتمعاً منتجاً».
والكلام عن الإنتاج والإنتاجيّة وتحسين مؤشّرات القطاعات الحقيقيّة «ليس جديداً» بحسب قرم، «فقد سمعنا في السابق كلاماً حتّى من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة».
ربّما الآن هو وقت الانطلاق نحو التغيير! «الكلام في البيان الوزاري وارد بسرعة ومن دون شرح أو تبيان للآليّات أو المبادرات التي يجب أن تتّخذها الدولة بالتشاور مع القطاع الخاص» بحسب جورج قرم.

وعود... وعود

الخبير الاقتصادي، غالب أبو مصلح، يذهب أبعد من ذلك في التشكيك في جدّية الطرح في البيان، إذ يقول إنّ «تقليص العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات ليس سوى وعد بين وعود لتزيين السياسات».
طابع فاتورة الاستيراد استهلاكي بامتياز: 35% منها للنفط والسيارات
أمّا تقليص العجز فمُمكن عبر قناة واحدة: "تناقص القدرة الشرائيّة!". وبشكل عام يرى أبو مصلح أنّه «حتّى ولو كان هناك نيّات حقيقيّة في ما يخصّ تعديل الرؤية إلى الاقتصاد، هناك أمور معقّدة ليس سهلاً علاجها". وبالعودة إلى العجز، يتّضح من نمط التبادل التجاري مع العالم أنّ واردات المواد المعدنيّة، وعلى رأسها النفط، راوحت نسبها من إجمالي الواردات بين 22% و27% بين عامَي 2004 و2009، لتبلغ السقف الأعلى في العام الماضي 4.2 مليارات دولار. وتزداد أهميّة هذا المعطى تحديداً لأنّ بنود الاستيراد الأخرى لا تفوق نسبتها من الإجمالي 12%، وهي تتمثّل أساساً بالمعدّات الكهربائيّة ومعدّات النقل.
ومن المعروف أن هاتين المجموعتين تعكسان حجم السوق الاستهلاكيّة اللبنانيّة، التي انتعشت بفعل الفورة الائتمانيّة ـــــ الاستهلاكيّة الأخيرة.
وهنا يمكن التأكيد أنّ التلاعب بمستوى استيراد السلع ذات النسب الصغيرة لا يمكن أن يؤثّر تأثيراً كبيراً في مجمل فاتورة الاستيراد. فطابع هذه الفاتورة استهلاكي بامتياز، حيث بلغت حصّة المواد المعدنيّة ومعدّات النقل (أي النفط والسياّرات) من الواردات الإجماليّة 38% في عام 2008، و35% حتّى الشهر العاشر من العام الجاري! فهل تتّجه الحكومة إلى تبنّي نظام نقل عام مشترك يتيح إمكان خفض استهلاك الوقود؟ وهل ستتجه إلى الاستثمار في الطاقات المتجدّدة المكلفة؟
هذا في جانب الاستيراد، أمّا في جانب الصادرات، فالموضوع محرج! إذ تمثّل الأحجار الكريمة 29% من مجمل الصادرات، وفقاً لإحصاءات إدارة الجمارك، بعدما كانت في العام الماضي 17%. وفي المرتبة الثانية مباشرة تحلّ الآلات والأجهزة والمعدّات الكهربائيّة. بمعنى آخر أنّ الصادرات اللبنانية هي بمثابة إعادة تصدير أكثر مما هي صادرات حقيقيّة!

أين القرار؟

ومن هذه الناحية التقنيّة تبرز ضبابيّة طرح الحكومة لأنّ فرض الضرائب الإضافيّة على المحروقات لخفض استهلاكها مسألة تبدو كارثية إذا لم تأت تتويجاً لنظام النقل الفعّال، أمّا التغيير الذي يُمكن أن يُطرح «فأساسه القرار السياسي» وفقاً للخبير الاقتصادي، روجيه ملكي، الذي يلفت إلى مسألة أساسية: «هناك وفاق داخلي واستقرار في العلاقات الخارجيّة»، وينتج من هذين المعطيين «نمو اقتصادي سينعكس في الصادرات» وبما أنّ أسعار الواردات ثابتة، «فسنشهد تراجعاً في قيمة العجز»... قد يكون هذا هو الجواب الشافي على ما طرحه البيان الوزاري، أي الرهان على العوامل الظرفية لتقليص العجز التجاري، والمحافظة على الكسل السائد، فلا إنتاج ولا صادرات ولا ضبطَ للاستهلاك ولا من يحزنون.


4.2 مليارات دولار

هو عجز الحساب الجاري في عام 2014، وفقاً لتوقّعات صندوق النقد الدولي، ليكون قد ارتفع بنسبة 25% مقارنة بعام 2008. ويضمّ هذا الرقم مجموع نتيجة «الميزان التجاري» و«الدخل الناتج من الخارج» و«صافي تحويلات المغتربين»، ويعكس طبيعة التجارة الخارجيّة


نموّ الأحياء والكلام الفارغ