أكثر من شهرين مرّا من دون أن يسجل الوضع الميداني على صعيد القتال ضد تنظيم «داعش» أي عمليات هجومية كبرى في العراق. كانت الحلقة الأخيرة في سلسلة العمليات التي امتدت منذ إنشاء «الحشد الشعبي»، في حزيران 2014 هي عمليات «خط اللاين» التي جرى خلالها تحرير مساحات تقدر بأكثر من خمسة آلاف كلم مربع من المناطق الواقعة بين طريق بغداد سامراء شرقاً ونهر الثرثار شمالاً وغرباً وذراع دجلة جنوباً. حصل ذلك بين نهاية شهر أيار ومطلع شهر حزيران 2015، فيما كانت قوات أخرى تابعة لـ«الحشد» و«فصائل المقاومة» تشن عمليات تحرير مدينة بيجي التي استمرت أكثر من شهرين وشهدت كراً وفراً وشراسة في المعارك لم تشهده أي منطقة من قبل.
وفي بيجي (تبعد نحو 225 كلم شمال بغداد) دفع «الحشد الشعبي» و«فصائل المقاومة» الكلفة الأعلى حتى الآن في العمليات التي خاضوها ضد «داعش»، حيث تتحدث الأرقام عما يناهز الـ500 شهيد. وتفيد المعطيات أن «داعش» تعاطى مع المدينة الواقعة شمال محافظة صلاح الدين بوصفها بوابة الموصل نظراً لكونها تمثل عقدة مواصلات تقود باتجاه عاصمة «داعش» العراقية من مسافة نحو 150 كلم. وعلى هذا الأساس خصص «داعش» أشرس مقاتليه، المعروفين بـ«جند الخلافة»، ومعظمهم من الجنسيات الأجنبية، وخصوصاً الشيشان والأوزبك، للدفاع عن المدينة. واستمر التنظيم بضخ مقاتليه من منطقة الفتحة الواقعة شمال شرق بيجي بمثابرة استثنائية محاولاً الحيلولة دون سقوط المدينة التي خسر فيها ما لا يقل عن 300 مقاتل. وحتى بعدما سقطت، في مطلع شهر تموز، أظهر التنظيم ولا يزال إصراراً على استعادة ما أمكن منها وعدم إتاحة الفرصة لقوات «الحشد» والجيش للاستقرار فيها. وبلغ جموح «داعش» في هذا السياق تنفيذ نحو 68 عملية انتحارية مؤللة في غضون 48 ساعة ضد النقاط المنتشرة على بعض خطوط التماس، وخصوصاً في منطقة تل أبو جراد (غرب) ما أدى إلى انسحاب قوات «الحشد» منها ثم العمل على استعادتها بعملية عسكرية سريعة ومكلفة.

حشدت «بدر» و«العصائب» و«الكتائب» فصائل وحدات النخبة للمشاركة في العملية


وفيما تحولت مصفاة النفط الواقعة شمال المدينة (الأكبر في العراق)، التي كانت محاصرة لفترة طويلة قبل أن تتمكن قوات «الحشد» من تحرير المحاصرين فيها، تحولت إلى مساحة مفتوحة من المنشآت الخربة فقد كلا الجانبين الإهتمام بالسيطرة عليها، فإن الوضع في بيجي نفسها عاد بعد نحو شهرين من نهاية العمليات فيها إلى حد قريب من نقطة البداية، أي إلى سيطرة «داعش» على معظم أحياء المدينة وعلى الجزء الأكبر من المصفى، فضلاً عن سيطرته السابقة على الأماكن المحيطة في المنطقة، كناحية الصينية ومخازن العتاد الضخمة الواقعة شمال غرب المدينة وبلدتي البوجواري والستمائة دار وغيرها.
والمؤكد، بحسب ما تجزم مصادر مطلعة، أن النتيجة النهائية للوضع الحالي في بيجي ما كانت لتكون على ما هي عليه لولا أن «الحشد الشعبي» قرر في أوج عمليات بيجي الأخيرة فتح جبهة ثانية في منطقة الفلوجة الصقلاوية ما استدعى نقل قوات رئيسية ووازنة إلى تلك الجبهة.
وقد حصلت النبضة الأولى من هذه العمليات في نهاية حزيران الماضي، حيث شنت قوات من «الحشد» تابعة للجناح العسكري لـ«منظمة بدر» سلسلة هجمات على المحور الشمالي الغربي لمنطقة الفلوجة، في مقابل منطقتي البوشجل والصقلاوية. واستمرت هذه الهجمات، التي كانت أشبه بعملية جس نبض لمتانة الخطوط الدفاعية للعدو، لنحو أسبوعين تمكنت خلالها قوات «الحشد» من تحرير مساحات محدودة وصولاً إلى تخوم الصقلاوية، قبل أن تتعرض لانتكاسة معنوية تمثلت باستشهاد قائد العمليات، أبو منتظر المحمداوي، وقائد اللواء الرابع في «الحشد»، أبو حبيب السيكيني في عبوة ناسفة ما تسبب بفقدان الزخم العملياتي.
وكانت قوات «الحشد» على موعد جديد مع استئناف عمليات الفلوجة قبل فترة قريبة جداً لولا أن طرأت متغيرات على مستوى صناعة القرار في القيادة العليا تمثلت بنقاشات معمقة حول جدول الأولويات العملياتي الواجب اتباعه. وتفيد المعطيات في هذا الإطار أن تزاحماً حصل بين إيلاء الأولوية لعمليات تحرير الفلوجة أو نقل الجهد العملياتي مجدداً إلى منطقة بيجي بغية حسم المنطقة نهائياً وعدم إبقائها في حالة مشاغلة استنزافية مع «داعش».
واتضح أن رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، الذي كان قد وصف قبل أشهر معارك بيجي بالحاسمة ضد «داعش» وأنها «ستحدد مصير التنظيم في العراق» دفع بشدة باتجاه تبني خيار بيجي العملياتي فيما كانت قيادة «الحشد»، ومعها «الحليف الإستشاري» الإيراني، ممثلاً بالجنرال قاسم سليماني، تميل إلى خيار الفلوجة. وتبيّن، كما تؤكد مصادر واسعة الاطلاع، أن دفع العبادي باتجاه خيار بيجي لا يتصل بحساسية الوضع الميداني في بيجي بقدر ما يعكس استجابة لضغوط أميركية وعربية عنوانها التحفظ الشديد من أن يجري تحرير الفلوجة على أيدي «الحشد الشعبي»، وهي المدينة التي عجزت قوات الاحتلال الأميركي في ذروة اندفاعتها داخل العراق من دخولها كاملة.
وتشير المعطيات إلى أن العبادي لمح، خلال النقاشات، إلى إمكانية جعل الفلوجة أولوية عملياتية إذا ما أبدى «الحشد» وحلفاؤه استعدادهم لقبول مشاركة «التحالف الدولي» وحضوره الجوي في ميدان العمليات. ولما كان الرفض حاسماً من قبل قيادة «الحشد» لاحتمال كهذا، جرى الدفع من قبله نحو خيار بيجي، وهو الخيار الذي لاقته قيادة «الحشد» في منتصف الطريق ربطاً بعدم رغبتها في التصادم مع العبادي وبتقديرها الأولي لخطورة الوضع هناك واستحقاقه أصلاً لأن يكون خياراً عملياتياً بمعزل عن تزاحمه مع خيار الفلوجة.
وعلى هذا الأساس اتُخذ القرار قبل نحو أسبوعين بنقل الجهد العملياتي لـ«الحشد» باتجاه مدينة بيجي، على أن تكون الخطة تحرير المنطقة بأكملها من دون ترك ثغر يمكن أن تتحول لاحقاً إلى مدخل للإستنزاف أو لتسجيل اختراقات من جانب «داعش». وبالفعل، فإن مشاهدات عينية تفيد بتحول منطقة بيجي إلى خلية نحل بفعل الاستعدادات الجارية من جانب مختلف الإختصاصات العسكرية التابعة لـ«الحشد» في سياق استعدادها للمعركة التي يبدو أن موعدها لن يتأخر عن أيام معدودة على الأرجح. وبحسب معلومات، فإن عدداً كبيراً من الفصائل التابعة لـ«الحشد الشعبي» سوف تشارك في عملية تحرير بيجي، وفي مقدمتها الفصائل الكبرى الثلاثة، «منظمة بدر»، «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله». وقد حشدت هذه الفصائل وحدات النخبة من قوتها العسكرية للمشاركة في العملية على أمل أن يؤدي تكامل الجهد العسكري فيما بينهما على العديد من محاور التقدم لحسم المعركة في وقت سريع.





حقائق وأرقام

تقع مدينة بيجي شمال محافظة صلاح الدين على مسافة 225 من بغداد ونحو 95 كلم من مدينة سامراء، مركز المحافظة. وتمثل المدينة مع ناحية الصينية التابعة لها عقدة مواصلات استراتيجية على مستوى شمال العراق، إذ تتفرع منها جملة طرق رئيسية تقود نحو كل من الموصل (شمالاً) والأنبار (جنوب غرب) وكركوك (غرباً) والحدود السورية في محافظة دير الزور (شرقاً)، فضلاً عن بغداد جنوباً. وإلى جانب أهميتها الجغرافية، تضم بيجي جملة من المنشآت المهمة، أبرزها المصفاة الأكبر في العراق (25 كلم مربع)، التي كانت، قبل تحولها إلى خروجها من الخدمة نتيجة الدمار الذي ألحقته بها المعارك، تنتج نحو 300000 برميل من النفط المكرر يومياً، كما تضم مصفاة سرية تقع داخل جبال المحكول المشرفة على المدينة من الشمال الشرقي، إضافة إلى معمل ضخم للأسمدة وآخر للزيوت ومخازن كبيرة جدا للأعتدة العسكرية كانت تتبع للجيش العراقي قبل أن يضع «داعش» يده عليها. وكانت بيجي سقطت بأيدي «داعش» مع بداية أحداث شهر حزيران العام الماضي، وشهدت منذ ذلك الحين عمليات كر وفر بين التنظيم الإرهابي والقوات النظامية العراقية أدت إلى تحرير المدينة وإعادة سقوطها ثلاث مرات متتالية. وبيجي الآن، كما محيطها القريب، خالية تماماً من السكان المدنيين، وقد تحولت هي والمنشآت الواقعة في قربها إلى كتل من الركام والدمار والخراب بحيث صار من المستبعد أن تصلح للسكان بعد تحريرها.