بعد عام على العدوان، لا تزال آثاره قائمة. آثار ليس على الحجر، بل على البشر. وتحديداً على الآلاف من الذين فقدوا منازلهم، ولجأوا إلى خيام إيواء مؤقتة، تحوّلت إلى دائمة مع مرور الوقت، ولا سيما في ظل بقاء الحصار وعدم القدرة على إعادة الإعمار. خيام تذكّر بأيام اللجوء الأولى في عام 1948، لكنه لجوء داخل الوطن
غزة ــ قيس صفدي
كأن أقدارهم لا تزال تفتش عن فيض آخر من المعاناة. تلمح، إذا ما أمعنت النظر في عيونهم، عوالم تنبض بحب الحياة، لم يحرمهم جبروت حرب غزة الأخيرة أحلامهم، وإن نقلتهم من بيوت تلفها الطمأنينة إلى خيام قمة في التشرد.
بلغ عددهم كأناس دمرت مساكنهم كلياً 3500 عائلة، من مجموع 60 ألف أسرة فلسطينية تضررت منازلها بأشكال مختلفة، فاضطر معظمها إلى قضاء شتائه الأول بعد انتهاء الحرب مباشرة في العراء، على أمل أن يرأف شرفاء العالم بحالهم المدججة بالحسرة والمرارة. غير أن أمطار عامهم الجديد وعواصفه تشهدُ الآن أنه لا أحد مدّ يد العون إليهم وأنه لا أحد بدد خوفهم، الأمر الذي يؤهلهم لمزيد من الانتظار.
«عارفة»، ذات الأربعين عاماً، هُدم بيتها في منطقة العطاطرة شمال قطاع غزة في أول أيام الحرب ( 27 كانون أول من العام الماضي)، فلجأت مع أولادها الستة وزوجها، الذي كسّر جنود الاحتلال ساقيه، إلى بيوت الناس. بعدما انسحبت قوات الاحتلال الإسرائيلي في 18 كانون الثاني من العام الجاري، جاءت هيئات الإغاثة لتنصب لأسرتها خيمة لا تزال تسكنها منذ ذلك الحين.
قضت عارفة أيامها الأولى في الخيمة بعد مدة قصيرة من عملية غضروف يحتاج صاحبها إلى الراحة التامة، وها هي بعد عام كامل من عمر مأساتها تقول «لقد شاء الله أن ألد طفلتي حنين بعملية قيصرية، قضيت على أثرها أسبوعين في المستشفى، وليلة عودتي إلى البيت كان المطر غزيراً، ولم أستطع أن أغادر وطفلتي خيمتنا إلى عيادة (وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) الـ«أونروا» المجاورة مع باقي العائلات المهجرة، فوضع زوجي فوقنا قطعة من النايلون (البلاستيك)، قضينا تحتها ليلة شديدة البرودة حتى مطلع النهار».
أضافت عارفة «ظل أطفالي طيلة الليل من دون أغطية، ولم تستطع ملابسهم القديمة والمهترئة أن تحميهم من البرد القارس، كذلك لم تسمح إدارة العيادة ببقائهم فيها، وطردتهم بمجرد طلوع الفجر».
وتبدو عارفة في قمة القلق على صحة صغيرتها التي تعاني من اتساع في عنق المعدة بسبب ما كانت تشمّه أمها من القنابل الإسرائيلية، لافتةً إلى أن المساعدات المالية لم تكف لشراء سرير للصغيرة، ولا لملابس سوى غيارين تضطر إلى التبديل بينهما على فترات طويلة ريثما يجف أحدهما بعد غسله.
وقالت عارفة إن الحكومة في غزة التي تقودها حركة «حماس» وفّرت لخيمتها المياه والكهرباء، التي تنقطع لفترات طويلة، فتجعل دراسة الأولاد مستحيلة، وتحديداً في هذه الأيام من الشتاء التي تغيب شمسها بعد وقت وجيز من عودة طلاب الدراسة المسائية من مدارسهم، معبرة عن استيائها من بلدية شمال غزة التي غرّمت زوجها بمبلغ 70 دولاراً تقريباً لاستخدامه المياه في ري شتلات قليلة من الباذنجان والريحان زرعها خلف خيمته.

شراكة

لقد غيّر الإسرائيليون تاريخ منطقتنا وجغرافيّتها، لا منزل، لا شجر، ولا معالم لحياة
بدورها تؤكد كوثر، التي تسكن مع أولادها العشرة في الخيمة المجاورة لخيمة عارفة، بشاعة الحياة بهذه الطريقة، موضحةً أنها وجارتها تعيشان حالاً من الشراكة في الطبخ لقلة الطعام، والغسل لندرة المياه، وتتقاسمان الأغطية أحياناً.
وتبدو كوثر شديدة الحزن على الحال التي وصلت إليها أسرتها بعد فقدانها لبيت أسمنتي من طبقتين في حي الأمل في بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة. وتشير إلى أن لدى ابنها الأكبر إعاقة عقلية تدفعه إلى الخروج من الخيمة في الليل، فيخشى أبوه الخروج للبحث عنه وتركي مع إخوته في الخلاء. وتقول إن هذا الأمر حرمها من توصيل الكهرباء للتدفئة واستخدام الغاز للطبخ خوفاً من أن يعبث هذا الابن بها ويحرق الخيمة للمرة الثانية، بعدما حرقها في وقت سابق.
وتضيف كوثر «كل يوم أبعث بناتي الثلاث إلى بيت خالتهن، لأنه ليس من الممكن أن أتركهن يبتن في هذا البرد الذي لا يحتملنه كإخوتهن الذكور». وتزيد «أقسم بالله إننا لا نملك ثمن قطعة كبيرة من النايلون، نحن في أشد الحاجة إلى وضعها فوق خيمتنا لمنع المطر من جرفها».

المرض والخوف

تشير كوثر إلى ابنها عمار (14 عاماً)، الذي أصبح يعاني من التهابات جلدية مفرطة من قلة الاستحمام لقلة المياه الساخنة في الشتاء، وإلى ابنها حمزة (6 أعوام) الذي يصاب بالخوف الشديد إبان سماعه لأصوات البرق والرعد. وتناشد الجميع توفير فرصة عمل لزوجها ليتمكن من الحصول على المال لبناء بيت جديد لا يزال الحلم به مستحيلاً في ظل استمرار إغلاق المعابر ومنع سلطات الاحتلال دخول مواد البناء إلى القطاع.
ويقول صالح، الأب المهجر من منطقة شمال غزة والمريض بالسكري والضغط، «بعد واحد وعشرين يوماً من بدء هدم بيوتنا وتهجيرنا، عدنا إلى منازلنا على أمل أن نجدها، لكننا صدمنا من هول ما رأينا. لقد غيّر الإسرائيليون تاريخ منطقتنا وجغرافيّتها خلال ثلاثة أسابيع من الحرب، لا منزل، لا شجر، ولا معالم لحياة».
الأطفال يصابون بالرعب من البرق والرعد: اجتاحوا اليهود. اجتاحو اليهود
ويكمل صالح «أتينا إلى مخيم الثبات (الاسم الذي أطلقته «حماس» على مخيم المشردين) لأعيش أنا وزوجتي وأولادي الخمسة عشر في خيمة تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة الكريمة. لا مطبخ ولا غرف نوم أو جلوس ولا دورات مياه، ولا مياه أساساً. لم نجد من يقدم لنا يد العون والمساعدة، ولا حتى من الحكومة في غزة التي تعهدت مراراً بالتعويض على متضرّري الحرب». ويتابع «ما كان يصلنا إلا ربطة خبز من حماس»، معتبراً أن الأمور في الصيف محلولة وبسيطة مقارنة بما عليه الحال في الشتاء، إذ يمكنهم في الصيف أن يتكيّفوا مع تقلّبات الجو وأمور الحياة التي لم تخل من خطورة على حياة أفراد عائلته. ففي الصيف ينام وأولاده خارج الخيمة، تاركين الداخل لتنام النساء والبنات، ما يعرّضهم لغزوات الذباب وهجوم الثعابين والعقارب القاتلة، وزحف السحالي.

خيمتهم أكبر

يبدو صالح عاجزاً عن إيجاد إجابة واضحة عن الكثير من أسئلة أولاده المليئة بآمال السكن في بيت جديد. فهو لم يعد يقوى على العمل بعد تدهور حالته الصحية، ومع ذلك فإنه لم يتوقف عن القول «كل شيء صعب عنا، ما في غير ربنا عالم بالحال».
ويترك صالح الفرصة لابنه وليد، صاحب الست سنوات ليتحدث عما أصاب أسرته، فيقول: «بيتنا هدمه اليهود في الحرب، وقتلوا جيراننا وأصحابنا، وشردونا وخلونا من غير دار، لحد ما أبويا اشترى هذه الخيمة، وكمان دار سيدي (جدي) ساكنين في عريشة عشان دارهم انهدت، وأنا كتير بحب أروح عندهم، مع إنه عندهم برد زينا، بس خيمتهم أكبر وأحلى منا، وأنا ما عندي أواعي (ملابس) جديدة للشتوية».

في خيمتي إنترنت

وفاء وكمال، زوجان هدم الاحتلال بيتهما فوق رأسيهما ورؤوس أولادهما، وقتل ابنهما إبراهيم ابن الثماني سنوات أمام ناظريهما. يعيشون معاً على أرض حكومية مليئة بخيام الإغاثة، ولهما واحدة من هذه الخيام تبدو كبيت متكامل. يُرى في مدخلها مكان مخصص لاستقبال الضيوف، ومكان آخر لنوم الأطفال مزوّد بجهاز حاسوب وإنترنت، إضافة إلى التلفاز في الجزء المخصّص لنوم الوالدين، الذي يقابله المطبخ المزوّد بثلاجة وموقد ومواد غذائية.
استطاعت هذه الأسرة المكوّنة من سبعة أفراد، بفضل راتب كمال الذي يعمل موظفاً في السلطة الفلسطينية، أن تشتري خيمة كبيرة، وحاولت أن تتخطى بين جوانبها جزءاً من ذلك الفارق الشاسع بين الحياة الراقية التي اعتادتها، والواقع الكئيب الراهن.
ورغم أن الرائي يُخيّل إليه أنه لا مشاكل صيفية أو شتوية تعتري خيمة بهذه الفخامة، إلا أن الزوجين ينفيان ذلك نفياً قاطعاً، فيتحدثان عن انتشار الذباب والبعوض، وعن فزع أطفالهما من أصوات الكلاب التي تسعد بالنباح قرب الخيام في منتصف الليالي الشتوية، وعن القطط التي تتسلل فتبيت إلى جوارهم، وعن انهيار أجزاء من خيمتهم من شدة المطر، حتى إنهم يستيقظون مبلّلين في كثير من الأحيان.
أما عن الأمراض التي تحدث عنها غيرهم نتيجة قلة النظافة وقلة المياه، فيرى كمال أنه لولا اجتهاده الشخصي وتوصيله للمياه والكهرباء، لما ساعده أحد على ذلك، مشيراً إلى انتشار الأنفلونزا والرشح الشديدين بين كل أطفال سكان الخيام التي تفتقد الدفء في أقل صوره ودرجاته.
وتخفي وفاء، الحامل في شهرها الثامن، وراء ابتسامتها مزيداً من القلق على جنينها في مثل هذه الظروف، مشيرةً إلى أطفالها الذين يصابون بحالات من الفزع الشديد عند سماعهم أصوات البرق والرعد، وبالتحديد ابنتها أمسيات التي كثيراً ما تستيقظ فزعةً في منتصف الليل الماطر فتخرج من الخيمة وهي تجري صارخةً «اجتاحوا اليهود. اجتاحوا اليهود».


«فش حاجة تريّح»

مجدي، أب مهجر آخر من شمال قطاع غزة، له طفلة اسمها نهى تعاني من مرض في القلب، وتعيش معه في خيمته التي أذاقته الويل في أول أيام هذا الشتاء. آثر مجدي أن يشرح معاناته على طريقته الخاصة، فلخصها بقول واحد «فش أواعي. فش فراش. فش مية. فش كهربا. فش حاجة تريّح الواحد، منيح أصلاً إنو في خيمة، وفي الآخر حنّوا علينا أهل الخير وأعطونا فرشتين وبطانيتين، مثلي مثل أصحاب الخيم الثانية».
ويواصل «قمنا بالاشتراك، بعضنا مع بعض، في شراء لفات البلاستيك، وأغلقنا الثقوب في الخيام، ولا أحد ينظر إلينا أو يسأل عنا ليعرف على الأقل حاجاتنا. ذهبنا مراراً وتكراراً إلى المسؤولين، ولكن لا حياة لمن تنادي. سنة من حياتنا مرت بعد انتهاء الحرب، والحال هي هي، ما تغيّر في إشي، وكل عام وأنتم بخير».