Strong>وائل عبد الفتاحمصر في حالة حرب فعلاً. تجاوز الاهتمام بمباراة مصر والجزائر خطوطاً كثيرة، وأصبحت موقعة كاملة الأوصاف من اللغة المستخدمة بانتظار الحسم إلى استدعاء تاريخ الانتصارات، وحتى شحن الجميع انتظاراً للصعود إلى المونديال لأنه الهدف من حرب التسعين دقيقة

كرنفال البحث عن الوطنيّة الجديدة



إنه وقت الكرنفال. أعلام مصر في كل مكان. ملابس كلها بألوان القميص الوطني. تتحرك كأنها قطع صغيرة تلتزم في رقعة حمراء كبيرة باستاد يحمل اسم الزعيم الاول للثورة: ناصر. والطريق إلى الملعب محفوف بالصرعات الجديدة: قبعات ملونة، طبول تدق إيقاعات الحروب القديمة، ووجوه مصبوغة على طريقة القبائل البدائية في استعراضات طرد الأرواح الشريرة والقتال مع الأعداء.
الموقعة جديدة تماماً على جمهور عرف كرة القدم مع كأس أفريقيا في ٢٠٠٦. صبايا وشباب لم يعرفوا ملاعب الكرة من قبل. لكنهم زحفوا إلى الاستاد وراء رغبة (أو احتياج ربما) إلى الدخول في حالة جماعية لا تشبه الجمهور التقليدي (يسمونه: الجمهور الحقيقي وأغلبه من شرائح شعبية تتسم بالحدة والهتافات البذيئة والانفعال المرتبط بفنون كرة القدم).
الجمهور الجديد رغبته أوسع وأعقد، وحدودها أبعد من المستطيل الأخضر. هي بالنسبة إليهم معركة بحث عن الوطنية في اللعب. وطنية مختلفة عن تلك التي ربتها معارك الاستقلال عن الاستعمار وعن وطنية كونتها العقلية العسكرية، حولت الشعب إلى جيش في معركة تحدي العالم. وطنية التحدي صنعت أجيالاً من الحالمين بالطيران إلى مصافّ الدول العظمى. أحلام انقلبت إلى كوابيس ثقيلة وجروح نرجسية مع الهزائم والتحالفات الخارجية.
دولة التحرر اكتفت بالنيات الطيبة وأغاني الاحتشاد الوطني. تركت العواطف وحدها تدفع قاطرة أنهكها الاستبداد. القاطرة تهالكت الآن بعد استهلاك العواطف. والاستسلام أمام التحالفات الخارجية والاستمتاع بموقع المضطهد صاحب الأمجاد الغابرة. هكذا أصبح أقصى ما تمنحه أنظمة ما بعد التحرر من الاستعمار لا يساوي أكثر من صفر.
من هنا ظهرت رغبة الانتصار لدى شباب يسخر بشدة من أناشيد المدرسة ومن خطب الصباح وخطابات الرئيس وحصص الوطنية في كلمات حزمة الديناصورات المتصلبة على صفحات كاذبة. لكن الأغاني والكلمات والخطب، وحتى الكليشيهات الوطنية القديمة، تصهر من جديد في رغبة تنتقل مثل العدوى. وطنية تحركها ورطة عاطفية مع المجتمع. صبيان وبنات تحت العشرين وفوقها بقليل يخرجون في أفواج لتشجيع منتخب الكرة ويهتفون وراء إيقاع طبلة الحروب هتافاً واحداً: مصر.
هم الذين يشعرون بالملل من تحية العلم في المدارس، يزرعونه اليوم في كل مكان. جمهور جديد تماماً من طبقة وسطى. لم تسيطر عليهم حالة اليأس الجماعي تماماً. لا يزال لديهم خيط أمل. تعلموا تعليماً جيداً إلى حد كبير. ويشعرون بإمكاناتهم ويرون أن من حقهم أن ينتموا إلى بلد يمكنه الانتصار. شعور غير معلن عنه ظهر فجأة كأنه غريزة مكبوتة أو حلم مهجور. لا تهمهم لعبة الكرة. ولم تحركهم مؤسسات الدولة. تشغلهم فكرة النصر.
ولأنهم أبناء طبقة وسطى تربت على الرعب من السياسة. وترى التعبير عن رفض الحكومة والرئيس مثل وضع يد مبلولة في محول كهرباء. ولأن الحكام وحاشيتهم يصادرون السياسة في مصر منذ نصف قرن وأكثر. والتعبير الجماعي عن الرفض أو الرغبة في التغيير تنتظره عصا الأمن المركزي أو زنزانة أمن الدولة.
ظهر الجمهور الجديد في ملاعب الكرة. يبحث عن طاقة جماعية تتفجر في احتفال صاخب. مشحون بمشاعر انتماء غريبة عن تكوينه وتربيته كمشروع شخص أناني لا تشغله أي أمور أبعد من مستقبله المالي. لم يصل كل هذا إلى الشكل السياسي. لأنه وريث أجيال مرعوبة من السياسة.
ربما كانت العاطفة الغامضة عدوى أساساً من السياسة. من كسر الحواجز التي تمنع الالتقاء في الشوارع: كرنفالات أو تظاهرات. الحركة السياسية كسرت احتكار الشارع والسيطرة على أماكن اللقاء الجماعية، وجمهور الكرة حولها إلى منطقة أخرى خاصة بالسعادة المجانية الآتية من اللعب والمهارة. في هذه المنطقة يتحول نجوم كرة القدم أبطالاً للبهجة وللانتصار على حالة الاكتئاب الجماعي.
قد تكون هذه الصور في خيال جمهور مصر في مباريات الكرة. وهم في الحقيقة أهم من الفريق. وكرنفال الكرة صحوة عواطف ميتة وصيحة جيل خرج إلى الحياة وبلاده خارج كل الحسابات. لكنهم اليوم يخرجون في مسيرات احتفالية يهتفون باسمها. صحيح أنهم لم يدفعوا فاتورة الخروج الجماعي كما يحدث في التظاهرات. لكن الكرنفال هو نوع من الحرية. تعبير اجتماعي مكبوت عن رفض الحال. ورغبة في الصراخ. صحيح أيضاً أن الكرة أفيون الشعوب.
وربما ركبت السلطة الموجة لتبدو انتصارات المنتخب كأنها من إنجازات النظام والحزب، أو حتى عائلة الرئيس (الرئيس مبارك زار الفريق في تدريباته الأخيرة وابنه جمال سيحضر المباراة، وهو مع شقيقه علاء من أصدقاء المنتخب وحلالي مشكلاته).
يمكن أن يحدث كل هذا في زمن آخر. الأجيال الجديدة قادمة بمشاعر مختلفة. ولم تدخل بعد في الماكينة التي تجعل من الرئيس نصف الله يحكم رعايا ينتظرون عطاياه. إلى أين ستذهب الورطة العاطفية؟ وكيف سيكون شكل جيل خرج إلى ملاعب الكرة لا إلى ساحات التظاهرات أو ميادين الحرب العسكرية؟ ومن يستطيع حكم جيل يرتبط بالفريق لا بالبلد وبقميص اللعب لا بمشاريع السياسة؟ جيل وطنية ما بعد القوميات. وهل يمكن أن تختلف جراح وطنية الملاعب عنها في وطنية الخنادق؟ هل هذه الوطنية تفاهة مطلقة؟ هي
تحشد في حالة الفراغ طاقات التعصب والتطرف قديمها وجديدها. تشحنها في الملعب تحت أضواء باهرة تبعاً لقانون يتفق العالم كله عليه. الإنجاز هنا هو عبور الحاجز المحلي والإقليمي والاشتراك مع نخبة العالم. هذا هو الهدف الذي يحتاج إلى ثقافة وتربية وإدارة صحيحة، وخصوصاً أن كرة القدم لم تعد لعبة في العالم، لكنها العالم.
والجمهور الجديد بوطنيته الجارفة لا يريد الخصام مع العالم. يريد المرور من تصفياته إلى القمم الشهيرة.

ساحة الحروب البديلة



قبائل متحاربة وحروب في زمن ضاق بالحروب العسكرية بعدما أصبح الحسم من قبيل القوة الوحيدة. الحسم استعصى في الحروب فجعل الملاعب بديلاً لها. والقائمون على صناعتها يدفعون عن وعي لتكون الكرة ساحة الحروب البديلة
التشجيع حتى آخر نفس. الحشد الشعبي سيضمن الفوز. البلد كله تحول إلى جسد ضخم سينزل للملعب ويخوض حرب التسعين دقيقة. حرب بكل المعنى الدقيق للكلمة. حملات عدائية متبادلة. ومزاج تحريضي وود مصنوع.
الفراعنة في مواجهة الخضر. حملات الدعاية تدعو المصريين إلى توجيه الدعاء لله. «يا رب» من 80 مليون ستزلزل الدنيا. كأن الله مصري وليس جزائرياً. وكأن الدعوات سترعب الخصوم وتتركهم بدون غطاء من القوى العليا. الدعاء عمومي ويستنجد طلباً لبهجة منتظرة.
مزاج الإعلام حربي. مشحون بشحنات تطلب بثّ الرعب في قلوب الخصم (الذي يشار له دائماً بتوصيفات قديمة): الأشقاء. الفعل الجديد يهدم العلاقة القديمة. والحروب الإلكترونية قامت على إعادة رسم تاريخ العلاقات بين مصر والجزائر وفق هوى المشجعين.
تُلغي الخصومة الجديدة تاريخاً من علاقات ساعدت فيها مصر حكومة التحرر الوطني، وقدمت الجزائر فيها وحدة عسكرية في حرب تشرين. محو التاريخ القديم وإعطاء تاريخ التنافسات الرياضية روح الحروب الحقيقية. تتحول مباراة تأهل مصر إلى كأس العالم 1990 إلى ذاكرة توقظ روح 1989، حين هزمت مصر الجزائر وتأهلت للنهائيات. حملة استعادة الروح، بحثت عن شهود اليوم «التاريخي» وصنعت منهم حملة تستنهض الروح المتعلقة بأقدام النجوم وخطة مدربهم الوطني.
حرب بين مدربين وطنيين وتدخلات من مؤسسات أمنية وسياسية ودبلوماسية. بيانات وتصعيد سياسي وأغانٍ تنتمي كلها إلى حقب الحشد الكبير (أيام ناصر والسادات) من «يا حبيبتي يا مصر» إلى «المصريين أهمه».
المحو في التاريخ السياسي وإيقاظ جانبه العاطفي تركيبة جديدة لا تروق كثيراً الالتراس (روابط المشجعين في ملاعب الكرة). الالتراس أكثر واقعية: هناك فرق بين الجمهور والشعب. ربما الالتراس هم شعب الفريق، لكنهم لا يمثلون أبعد من الرابطة الرمزية للفريق. وهي رابطة كبيرة بالنسبة إلى الالتراس. لا يختلط الوطن هنا بالفريق. الفريق هو وطن كامل. لهذا فإنهم «قوة» في الملاعب هددت بعدم الحضور لأنهم «التراس النادي» لا التراس مصر. المشترك الوحيد هنا أن لاعبي الفريق ضمن تشكيلة المنتخب.
الالتراس هم النقيض لحشود المشجعين الذين انتقلوا من خط النار إلى مدرجات الملاعب وأمام شاشات التليفزيون. في ليلة حرب افتراضية استُدعي فيها هتلر ليمثل الجزائريين وتعاد فيها أسطورة حرب أسبارطة تعبيراً رمزياً عن حرب الحق والباطل، رغم أنه لا حق ولا باطل في الكرة.

الكرة صانعة الهوياتمشاعر الحرب وأن المباراة «يوم تاريخي» تأتي غالباً من أن الخصم عربي، حيث تتجاور المحبة والحزازات المسكوت عنها. إيقاعات الراب حملت مشاعر سطحية ساخنة ونفسية اعتداء لفظي على الخصم. والشاب المثقف الذي يعمل في مجال حقوق الإنسان قال ببساطة: «لا بد من أن نحمل معنا أعلاماً جزائرية لنحرقها في الاستاد».
الجمهور الجزائري كان أعنف وأسبق في مشاعر البداوة التي تحول البلد إلى قبيلة والفريق إلى جيش محاربين. هذه العداوة ليست طارئة، لكنها تستخدم تقنيات رعب الملاعب مؤقتاً. عصابية مرتبطة بالمباراة، لكنها قد تمثّل خط أفق سياسياً يعيد تعريف موقع مصر أو يفصلها عن كتلتها القديمة (وهي كتلة صنعتها الناصرية وحاول السادات تهديمها وانتعش مبارك على أطلالها).
اللعبة لم تعد مصدر متعة فقط، لكنها تشارك في صنع الهوية وملء الفراغ بين الفرد والجماعة. والأهم أنها تفكّك الروابط القديمة وتفتح البوابة أمام اندفاع مشاعر مكبوتة.
الزوجة المصرية هربت من زوجها الجزائري المتعصب. حكاية ليست جديدة على مجانين الأهلي والزمالك، لكنها جديدة على مستوى الحرب بين المنتخبات.
الفيفا حريص على تحول اللعبة من لهو عادي إلى صناعة كبيرة، ومشاركة كرة القدم في تصنيع الهويات تمنح اتجاه الفيفا شحنات غير متوقعة.