مؤتمرات العشائر مؤشّرات على تخلّف «ديموقراطيّة» الاحتلالبغداد ــ زيد الزبيدي
تكثر هذه الأيام «مؤتمرات العشائر» في العراق المموّلة من موازنة الحكومة بعدما أُدرجَت في خانة تشجيع «المصالحة الوطنية». ظاهرة تثير التساؤلات حول «مصالحة مَن مع مَن؟»، وهل هذه العشيرة أو تلك بحاجة إلى «مصالحة وطنية» داخلية، أم إلى مصالحة مع جهات أخرى؟ وبالتالي، يُطرَح السؤال عن جدوى «مؤتمرات عشائرية» تُقام فيها الموائد وتُلقى خلالها خطابات المجاملة لتنتهي خلافات مزمنة بلمح البصر؟
التساؤلات كثيرة، ولكنّ الملاحظ أنّ الموجة العشائرية هذه أتت في أعقاب الموجة الطائفية، وربما كبديل عنها، غير أنّ هذا البديل يبدو أيضاً «غريب اللون والرائحة والطعم».
ويرى مراقبون أنّ الجهات الطائفية قد تكون لها أهداف ومطالب محدّدة، وإن كانت بخلاف المطروح عن الدولة المدنية، أو شعار رئيس الحكومة نوري المالكي «دولة القانون». إلا أنّ عشائر العراق لا تسعى إلى هذه الأهداف بما أنها تملك قاموساً مختلفاً يعتمد على «الأعراف العشائرية»، كما أنها تشترك في قاسم رئيسي، هو فقدان ترابطها الذي نشأت عليه، واندماج أفرادها في المجتمع المدني منذ انتهاء سطوة الإقطاع وصدور قانون الإصلاح الزراعي في 14 تموز 1958.
وبحسب الباحث الاجتماعي سليم الطاهر، فإنّ العراق لم يخلُ من بعض النزعات الطائفية قبل الاحتلال، وكانت بعض العائلات من الشيعة مثلاً، ترفض زواج بناتها من السنّة، والعكس صحيح. والغريب أنّ هذا الأمر ينطبق على الإناث أكثر منه على الذكور المسموح لهم، حتّى لدى العائلات المتزمّتة بالزواج من الطائفة الأخرى.
لدى المالكي أكثر من 60 مستشاراً جميعهم من حزبه «الدعوة الإسلامية»
ويوضح الطاهر كيف أنّ كل العائلات العراقية اليوم، تكاد تنتمي إلى عشائر مزدوجة، ناهيك عن العائلات ذات الانتماء الطائفي المزدوج. ويؤكّد معظم المهتمين بالشأن العراقي مغزى حديث الطاهر، ويشيرون إلى وجود عائلات ذات انتماءات سياسية مختلَطة، إذ كان يوجد في البيت الواحد أشقّاء ينتمون إلى أحزاب وتوجهات مختلفة، منهم البعثي والشيوعي والإسلامي والقومي، فما بال العشيرة التي تفرّق أفرادها بين مختلف مدن العراق وقراه والعالم؟
ويلاحظ المراقبون أنّ النظام السابق، في فترات ضعفه تحديداً، وخاصة في ظروف الحصار، حاول إحياء الروح العشائرية لإيجاد نوع من المركزية التي تساعد الحكومة، ما يعني أن اللجوء إلى التوجه العشائري اليوم أيضاً، يعكس ضعف الحكومة المركزية التي تهدف إلى كسب الولاء حتى عن طريق «تعيين» شيوخ لهذه العشيرة أو تلك، وإيجاد بدلاء للشيوخ الذين يرفضون التعاون مع الاحتلال والسلطات التابعة له.
ولعلّ أكثر ما يلفت انتباه المراقبين أنّ الولايات المتحدة غزت العراق واحتلّته بدعوى «نشر الديموقراطية»، في وقت تمارس فيه أقصى درجات التخلف في إدارة شؤون البلد، فتنتقل به من التخلف الطائفي إلى التخلف الإقطاعي، وكأن العراق يعيش في بدايات القرن العشرين أو حتى قبل هذه الحقبة.
ويبدو أن السياسة الأميركية في العراق وجدت في شخص المالكي، خليفة مناسبة للنهج العشائري، بما أنه ينتمي إلى أسرة محمد حسن أبو المحاسن المالكي، وزير المعارف عام 1925 إبّان الانتداب البريطاني.
يلجأ إلى العشائر في فترة ضعفه المتواصل تماماً كما لجأ إليها صدام
إلا أنّ المتابعين يرون أنّ لجوء المالكي إلى العشائر، وكثرة خطاباته في منتدياتهم، يعود إلى نزعة الـ«أنا» الغالبة لديه، حتى إنّ بعضهم أخذ يقارن سلوكه وشخصيته بسلوك صدام حسين وشخصيته. فعلى سبيل المثال، كان صدّام رئيساً للحكومة وللجمهورية. وسبق لقادة المعارضة العراقية، والمالكي أحدهم، أن أقاموا الدنيا ولم يقعدوها اعتراضاً على كثرة قصوره الرئاسية، بينما يقيم المالكي اليوم في أحد هذه القصور. أمّا صور صدام التي غزت كل أنحاء البلد، فلا ينافسها اليوم إلا صور «دولة الرئيس الحالي» الكبيرة المرفوعة في الاستعراضات العسكرية والمؤتمرات العشائرية. ولمّا أكثر المعارضون السابقون من الكلام على خوف صدام من الشعب وتحركه ضمن سور قوي ومنيع من فرق الحمايات، كان على المالكي إحاطة نفسه بمدرّعات أميركية، وهو يتحرك، حتى داخل المنطقة الخضراء المحمية، بواسطة سيارات مصفّحة، ويسوّر المنطقة التي يقيم فيها بجدران اسمنتية، واضعاً عند البوابة التي تؤدّي إلى الطريق الضيق الذي يوصل إلى فريق حمايته، لافتة تقول «احذر الاقتراب... هناك قوى مميتة».
ومثلما تشبّث صدام حسين بالسلطة، وأزاح من طريقه الرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر، فقد أطاح المالكي زعيم حزبه إبراهيم الجعفري في خضمّ صراعهما على السلطة. إضافة إلى كل ذلك، فلدى المالكي حالياً أكثر من ستّين مستشاراً، كلّهم ينتمون إلى حزبه «الدعوة الإسلامية» (خط أبو إسراء)، وليس بينهم أي شخص من حزب شيعي آخر، ناهيك عن عدم وجود أيّ شخص ينتمي إلى الطائفة السنية أو إلى أي من الطوائف الأخرى. أكثر من ذلك، فقد أبعد «إبو إسراء» عن دائرته، سواء الحزبية أو الحكومية، جميع المقربين من الجعفري، وصار يتصرف بالحزب تماماً كما كان صدام يتصرف مع «بعثه».
وكما لجأ صدام حسين في فترة ضعف نظامه إلى العشائر، فإن المالكي يمارس الدور نفسه في فترة ضعفه المتواصل، متناسياً أنّ عشائر 2009، ليست كما كانت في زمن جدّه أبي المحاسن الذي لم يكن يغدق العطايا على شيوخها من خزينة الدولة.