للذكرى
«واحد مارتيني وكتّرلي الملح، أو تعرف شو، نزّلي الملح مع الكاس». ينهي البارتندر طلبيته ثم ينظر إليّ: «شو بتحبي تشربي»؟ أجيبه بثقة: «واحد شاي وحياتك!». ملاحظة صغيرة: الكحول تقتصر اليوم على الناس السعيدة التي لا تكترث إذا ما كانت قنينة البيرة تساوي 6000 ليرة لبنانية أو كأس المارتيني 8000. أما من يطلب الشاي فهو بالطبع الإنسان المهموم الذي يحتاج إلى التركيز للخروج بحلول لمشاكله من جهة، ولأن كوب الشاي يساوي «بالكتير» 3000 ليرة لبنانية من جهة أخرى. يناولني الكوب وعندما أمسكته، تذكرت شاي «أُم ياسين» وشعرت بالشوق إليه. شاي «أُم ياسين» لم يكن لذيذاً بصراحة، إذ إن نسبة الملوحة في المياه المستخدمة في مخيم برج البراجنة عالية جداً. لكن، «القعدة عندا غير شكل». هكذا بينما كنت أشرب الشاي في المقهى سرحت بالتفكير «ماذا إذا كان كلام الصحف صحيحاً، أمعقول أن يكون المخيم مستهدفاً؟ ومنذ متى هناك جماعات أصولية في البرج». لكني أعود وأدرك أنني أعرف المخيم جيداً، وأعرف أنه من أكثر مخيمات بيروت انفتاحاً على محيطه. أتذكر نهر البارد، فأنا كنت أعرف ذلك المخيم جيداً، ثم أسرح بفكري «لكنّ لنهر البارد موقعاً استراتيجياً، فهو قريب على الحدود السورية، مقابل للبحر، كما أنه كان يمثّل نقطة ارتكاز تجارية للشمال كله، أيعقل استهداف مخيم البرج لأسباب مشابهة؟ فالبرج قريب من مطار بيروت، موقعه استراتيجي فهو يربط بيروت بضواحيها، كما أن له موقعاً تجارياً لا يستهان به. لا لا، مخيم برج البراجنة هو أكبر مخيمات بيروت، وسقوطه يعني سقوط الوجود الفلسطيني بأكمله في العاصمة! أستفيق عندما يلكزني رفيقي قائلاً «شوفي يا رفيقة شوفي» مشيراً للعلامة التجارية على كوفيته، فقلت «صنع في فلسطين! منلّك هالكوفية خيّا؟» يجيبني، «إيش مش شايفة، من فلسطين». فبدأ بالتباهي فيها أمام بقية الرفاق في المحل. جميلٌ كيف يمكننا أن نتعلّق بأبسط الأشياء، الرفيق سعيدٌ بكوفيته، ومحمود سعيد بحفنة التراب التي احتفظ بها تسع سنوات منذ زيارته حدود فلسطين بعد تحرير جنوب لبنان، وماهر «مكيّف» بعلّاقة مفاتيح أحضرتها له خالته من رام الله، وراجي يأبى حتى اليوم استخدام الصابونة النابلسية التي مر على وجودها أكثر من ثلاث سنوات. لكن في الوقت ذاته، أبو محمود يتذكر أبا ماهر الذي راح ضحية مجزرة صبرا وشاتيلا، وأمي تقول «هناك كان مخيم النبطية»، والجميع شهد سقوط البارد. أيعقل أن تصبح المخيمات للذكرى، أسيأتي اليوم الذي نقول فيه «هنا كان مخيم البرج البراجنة»؟
بيروت ـــــإيمان بشير

■ ■ ■

الحاضر في غزّة
الشاي من أهم المشروبات الوطنية الفلسطينية، رغم أنه «سيلاني». يتميز الشاي الفلسطيني بأنه معقود وحلو، هذا بالنسبة للشاي الفلسطيني عموماً. أما الشاي الغزاوي فميزته أنه يعد من «المياه العضوية» التي تمثّل، بحسب مصادر عديدة، حوالى تسعين في المئة من مياه القطاع. المياه العضوية التي أقصدها، هي المياه الجوفية التي اختلطت بالمياه المبتذلة، بسبب قصف إسرائيل شبكة الصرف الصحي في عدوانها الأخير على غزة. لكن مع ذلك يبقى الشاي «أطيب مشروب عندي، قلتيلها اسقيني شوي، قالتلي ما عندي مي، المي مقطوعة يا أفندي»، أكيد الميّ مقطوعة، هنا غزة وأهلاً فيكِ بغزة.
لا أخفي عليك أنني أغار من أهالي مخيم البرج لأن شايهم مالح على عكس شاينا المر، لكني أتضامن بكامل قواي العقلية مع أهالي المخيم. لأننا بكل بساطة أولاد فلسطين، ولاجئون أولاد لاجئين. بل أكثر من ذلك، لأننا مطعونون من الخلف، للأسف، من بعض من يدّعون أنهم أولاد فلسطين وأنهم أولاد لاجئين. أنا أيضاً لا أثق كثيراً بكلام الصحف والناس. هل معقول أن «عباس طلب تأجيل التصويت على تقرير غولدستون بعدما هددته إسرائيل بشريط فيديو يظهره يحث الإسرائيليين على مواصلة قصف غزة؟». وهل صحيح أن «محمود عباس طلب تأجيل النظر في التقرير لأن إسرائيل وعدته بتسهيل تزويد شركة الاتصالات التي يملكها ابنه، بالموجات والترددات؟».
صراحة، لن أتفاجأ كثيراً إذا كان ذلك صحيحاً. فأنا أعلم أن دماء 1500 شهيد وآلاف الجرحى ليست أغلى من الكرسي، ولا تساوي شيئاً أمام الأرباح الطائلة التي تجنيها شركة الاتصالات. لكن على الأقل فليكلف نفسه ويعرض علينا تقاسم الغنيمة. يعني ليعطِ ظهر كرسي لهذا ليتدفأ في الشتاء، وتردد لذاك ليكلم أولاده العالقين في الأنفاق، وشي موجة أو تردد لسامح ليلبسها بإجرو عالمدرسة.
غزة ــــ أبو زياد