محمد زبيبتكتظّ السجون في لبنان بأبرياء وموقوفين من دون محاكمات ومحتجزين احتياطياً منذ سنوات وسنوات من دون توجيه أي اتهامات إليهم، إلى جانب مدانين في جرائم وجنح مختلفة، لكن ليس بين هؤلاء أي سياسي فاسد أو موظّف كبير مرتشٍ أو تاجر غشّاش أو مصرفي أساء الأمانة... هذا الواقع لا يثير غيظ أكثرية اللبنانيين، بل على العكس، تُكافئ الطبقة السياسية في كل الحالات والمراحل، بأن الأكثر ثراءً في لبنان هو الذي ينال أكثر الأصوات في الانتخابات!
يمثّل الفساد أساساً راسخاً لثقافة «الشطارة» المعممة منذ أمد طويل، الأمر عند اللبنانيين أكثر من اعتيادي، لذلك يتناقلون «المأساة» كطرفة تقول «إن في هذه البلاد سرقات كثيرة، لكن ليس منها لص واحد»، ولو على سبيل تقديم كبش محرقة أو فداء، كما يحصل عادة في معظم الدول التي تنتحل صفة «الديموقراطية» أو التي تُنعت بـ«الديكتاتورية»!
■ لقد أعلن وزير الأشغال العامّة غازي العريضي أن في وزارته مديرين متورطين بملفات فساد ورشوة، وهكذا فعل وزير الاتصالات جبران باسيل، وهذا ما يعرفه الجميع، لكن القضاء لم يوقف أحداً، وربما لم يستجوب أحداً أيضاً... تزخر البلاد بأخبار تمرّ مروراً عابراً: لحوم فاسدة تُستورَد وتباع في الأسواق المحلية، بنزين مغشوش بمادة النافتا الشديدة الاشتعال، أدوية انسولين معبّأة بالمياه الآسنة، محطات إنترنت موصولة بإسرائيل، سجائر مهرّبة يوازي حجمها ثلث السوق... مافيات تتحكم بكل جوانب الحياة، تستولي على السلطة في لبنان.
■ لا يجد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة حرجاً في أن يتباهى أمام مجموعة من المستثمرين الأميركيين زارته أخيراً بأن أي حالة إفلاس مصرفي لم تُسجّل في لبنان! لكنه، في سياق الحديث نفسه، يقول إنه نجح بإخراج 30 مصرفاً من السوق من دون تسجيل أي خسارة أو كلفة على المودعين (تصفيق).
وماذا عن فضيحة بنك المدينة؟ لقد تبخّرت مئات ملايين الدولارات، وقيل كلام لا يتخيّله عقل عن اختلاسات وتبييض أموال ورشىً لسياسيين ووزراء ونواب وضباط لبنانيين وسوريين... كان كل ذلك يحصل أمام عيون القيّمين على القطاع المصرفي والمكلّفين مراقبته. أين عدنان وإبراهيم أبو عيّاش؟ أين رنا قليلات؟ كيف خرجوا من لبنان؟ من أخرجهم؟ أين أصبح الملف؟ لماذا لم يُستدعَ أي من الذين وردت أسماؤهم في اللوائح الموزّعة والوثائق المنشورة؟ لماذا لم يُقبَض على أي مشتبه فيه؟ نعم، انصبّ الجهد منذ افتضاح ملف بنك المدينة على تسييل بعض العقارات للتعويض على بعض المودعين، لكن «من ضرب ضرب ومن هرب هرب»، هكذا يريدون مسح هذه الفضيحة من ذاكرة اللبنانيين، وهي ذاكرة قصيرة فعلاً، فهم ينجحون بذلك دائماً.
إذا كانت فضيحة بنك المدينة لا تمثّل حالة إفلاس احتيالي موصوف، فماذا تمثّل؟ وإذا كان المودعون محميّين من أي خسارة أو كلفة بعد إزاحة 30 مصرفاً مهترئاً من السوق، فماذا عن أكثر من 1780 مليار ليرة ضُخّت سابقاً في المصارف الدامجة على حساب المكلّفين اللبنانيين جميعاً؟
سرقات كثيرة، لكن ليس هناك لص واحد
لقد مثّل القانون المعروف باسم «قانون تسهيل الاندماج المصرفي» فضيحة بحدّ ذاته، وعلى الرغم من ذلك، جُدِّد العمل به في مطلع هذا العام، وسرعان ما استُخدم للفلفة فضيحة إضافية كانت تحصل في بنك «اللاتي» قبل بيعه إلى البنك اللبناني للتجارة، فهذا القانون لا وظيفة له إلا التعمية على ممارسات مشينة تحصل هنا وهناك، هو البديل عن القضاء الذي لا يتحرّك أصلاً لمحاسبة المسؤولين عن هذه الممارسات! وهذا القانون مثّل مصدر ربح إضافي للمصارف المحظوظة، إذ أُعطي المصرف الدامج مكافأة هي عبارة عن قرض ميسّر جداً يُوظَّف في سندات الخزينة بعوائد مرتفعة جداً!
لقد أُشيع أن سبب إلغاء صفقة شراء بنك «اللاتي» من أربعة مستثمرين خليجيين ثم بيعه إلى البنك اللبناني للتجارة، أنّ حاكمية مصرف لبنان «اشتمت» رائحة صافي حرب في الصفقة الأولى، وقيل إن حرب ممنوع من العمل في القطاع المصرفي اللبناني نتيجة «ملفات سوداء» سابقة... إذا كان ما أُشيع صحيحاً، فلماذا لم تُحَل «ملفات» حرب على القضاء؟ لماذا لم يُحاكم؟ إن رياض سلامة مهما بلغت سلطته، فهي لا يمكن أن تصادر صلاحيات القضاء.
ما هذا النجاح الباهر، حيث يُعفى كل المتورطين من تبعة الملاحقة والمحاسبة؟ إنه فعل التباهي بالقدرة على حجب الرؤية، فكل ما هو مستور ممتاز.
لقد بات الجميع، حتى أولئك الذين يقيمون في باب التبانة أو النبعة أو على ضفاف نهر الغدير، يمجّدون المصارف اللبنانية التي تصنع «معجزة» لبنان المستمرة. بات الكلام على المصارف بمثابة «تابو»، إلا إذا كان بهدف المديح المجاني أو المدفوع! وبات باستطاعة اللبنانيين أن ينهضوا كل صباح ويذهبوا إلى حروبهم «الأخوية»، وهم مؤمنون إيماناً راسخاً بأن حاكم مصرفهم المركزي يحمي ظهورهم منذ عُيِّن في منصبه في عام 1992 وإلى ما شاء الله.
■ أعلنت شركة MEA، التي يمتلك مصرف لبنان أسهمها ويديرها مباشرة أنها ستحقق أرباحاً في هذا العام بقيمة 100 مليون دولار. خبر جيد، ولا سيما أن شركات الطيران في العالم تكبّدت خسائر بقيمة 10 مليارات دولار بسبب الأزمة القائمة، لكن أين ميزانية هذه الشركة؟ لماذا لا تُعلن وفقاً لما ينص عليه قانون التجارة؟ أليس غريباً أن كل الشركات التي تمتلك الدولة أغلبية الأسهم فيها مباشرة أو عبر مصرف لبنان لا تعلن ميزانياتها السنوية منذ سنوات طويلة؟ هذا ينطبق على كازينو لبنان الذي يشهد حالياً صراعاً محتدماً بين الزعماء السياسيين لتحديد حصّة كل منهم بتعيينات إدارته. وينطبق أيضاً على شركة إنترا التي لا يعرف إلا القيّمون عليها حساباتها الفعلية؟
لم تُقدّم مجالس إدارات كازينو لبنان وإنترا و MEA أي بيانات مالية إلى الجمعيات العمومية منذ أمد طويل، علماً بأن 48% من أسهم الكازينو مملوكة من القطاع الخاص والأفراد، وكل سنة تُعتمَد بدعة توزيع «سلفة» على أنصبة الأرباح بدلاً من توزيع الأرباح نفسها!
هل من أحد يسأل عن الشفافية هنا؟ أم عن الحوكمة الدارجة في هذه الأيام؟
■ «لبنان لم يتخلّف يوماً عن الإيفاء»، معزوفة تتكرر دائماً، يفرح لسماعها اللبنانيون، وهذا صحيح، ما عدا الديون المستحقة على الحكومة لمصلحة الضمان الاجتماعي (نحو 1000 مليار ليرة)، ومؤسسة ضمان الودائع أيضاً، وحقوقاً كثيرة للمواطنين، ومستحقات قليلة للمقاولين والمستشفيات والاستملاكات... هذه الديون غير محسوبة في المعزوفة، المقصود إذاً إيفاء الديون، وقد أقرّت الحكومة والمجلس النيابي قانوناً منذ سنوات يؤكّد التمسك بهذه المعزوفة، اسمه قانون «حساب إدارة وخدمة وتخفيض الدين العام»، الذي تحوّل إليه حكماً صافي إيرادات خصخصة أي مرفق عام يُخَصخَص خلال مدة أقصاها عشرون سنة من تاريخ نشر هذا القانون. نعم، لم تستحِ الطبقة السياسية بأن تجاهر بفعلتها، فقد وُضع اللبنانيون في مرتبة أدنى من الدائنين... فلتعمّ العتمة والعطش والفقر والبطالة والمرض والأمية والتخلف، لكي تنعم المافيات بالمزيد من الثروات.
اللبنانيون يقبلون بذلك، إنه ردّ مازوشي على ساديّة خالصة.