اكتسب العراق شهرته منذ القدم من نهريه العظيمين، دجلة والفرات. بلاد ما بين النهرين، أو بلاد الماءين، مصطلحان كانا يرمزان للعراق من باب ثروته المائية البيضاء، وذلك قبل عهود من اكتشاف ثروته ــ مصيبته النفطية السوداء. تغيّر كل شيء اليوم، وأصبح العراق عنواناً لعطَش أهله ولتصحّر أرضه وجفاف تربته وتلوّث ما نجا من مائه في مواجهة عجز الطبيعة وظلم الجيران وسلوك الإنسان
بغداد ــ زيد الزبيدي
لقد تمّ تناول مشكلة الجفاف والتصحر في العراق بشكل مستفيض، لكن الغالب في هذا التناول هو ما اعتادت عليه أسماع العراقيين من إبراز لمفهوم «المظلومية»، سواء من جانب الحكومة، أو اتهام الآخرين بممارستها، من دون أي مشاريع معالجات تُذكَر. أرض الرافدين تشكو العطش. حقيقة لا تحتمل اجتهاداً ولا رأي. مياه دجلة والفرات وشط العرب آخذة بالانحسار، بسبب قلة الإطلاقات المائية من دول المنبع والمرور. مشكلة ليست وليدة اليوم ولا الأمس القريب، لكنّ الحلول تكاد تكون معدومة، بينما الواقع الزراعي في العراق يواصل انهياره بسبب عدم توافر إمكان استغلال الموارد المائية المتاحة، وخصوصاً عدم توافر الوقود للمضخات الزراعية، إضافة إلى الواقع المؤلم الذي يعيشه المزارعون، بين قتل وسجن وتهجير وفوضى أمنية وفساد إداري، وإلغاء الدعم الحكومي، بينما توقّف إنشاء السدود المحلية توقفاً كاملاً، رغم توافر المخصصات المالية لها.
ويعتقد الخبراء أن العراق «يفترض» أن يكون أقل الدول تأثراً بأي موجة جفاف، أو قلة أمطار، لوجود نهرين كبيرين يمران فيه، (دجلة والفرات)، إضافة إلى أنهار كثيرة أصغر منهما، مثل الزاب الكبير والزاب الصغير والخابور وديالى والوند والكارون، وغيرها، مع مساحات واسعة من المسطحات المائية كالأهوار والبحيرات، فضلاً عن مياه الآبار.
لكن في ظل الأوضاع الأمنية والاقتصادية غير المستقرة، فإن خطر أزمة المياه يصبح ماثلاً للعيان، ما يهدّد بحصول كوارث إنسانية تطال المواطن العراقي وتهدد اقتصاد البلاد.
وبحسب مجلة «المياه» المتخصصة، فإن النزاع على مصادر المياه أصبح يمثّل فتيلاً يهدد بظهور صراعات محلية وإقليمية، ما يستدعي أن تأخذ المنطقة هذه المسألة بجدية، من خلال وجود تصور وبعد استراتيجيَّين، ووضع سياسات مائية موحَّدة لمواجهة تحدّيات الأمن المائي، فيما بدأت تركيا بإنشاء السدود، ولحقت بها سوريا وإيران، وبقي العراق بين متفرّج ومترقّب للكارثة.
وسبق أن وافق العراق في عام 1947 على عقد معاهدة صداقة وحسن جوار مع تركيا، أُلحقت بها ستة بروتوكولات تضمّنت تنظيم الانتفاع من مياه دجلة والفرات، وتفادي أضرار الفيضانات، وإقامة مشاريع للمحافظة على المياه، مع موافقة أنقرة على مبدأ ضرورة تزويد العراق بالمعلومات الخاصة بالمشاريع والأعمال التي تنوي القيام بتنفيذها، على نحو يوفّق بقدر الإمكان، بين مصالح البلدين.
لذلك لم تظهر أي مشكلة قانونية حتى بدأت تركيا، ومن بعدها سوريا، في وضع الخطط لاستغلال مياه نهر الفرات على نحو منفرد. ففي عام 1966، بنت تركيا سد «كيبان» الذي بلغت سعة التخزين فيه 30.5 مليار متر مكعب، ومحطة كهربائية قوّتها خمسة مليارات كيلوواط. بدورها، بنت سوريا سدّاً كبيراً على نهر الفرات يسمح بتخزين المياه بحجم 11.9 مليار متر مكعب، ومحطة كهربائية بقوة 800 ألف كيلوواط، وهكذا بدأت كل من هاتين الدولتين بتنفيذ مشاريعهما واستغلال مياه الفرات من دون مراعاة لحقوق العراق المكتسبة في مياه النهر، التي قدّرها الخبراء في حينه بـ 18 مليار متر مكعب من المياه. وقد سعت حكومة بغداد في تلك الحقبة إلى عقد مفاوضات واتفاقيات لتحديد الانتفاع من مياه النهر بين الدول الثلاث، إلا أن جميع اللقاءات والمحاولات باءت بالفشل.
وفي عام 1990، توصلت سوريا والعراق إلى توقيع اتفاقية لاقتسام مياه نهر الفرات بنسبة 58 في المئة للعراق، و42 في المئة لسوريا. وبالرجوع إلى البيانات المتعلقة بتصريف نهر الفرات، ومقارنتها مع حجم المطالب الاستهلاكية للدول الثلاث، ترى تركيا أنّه يستحيل تلبيتها، حيث إنّ 88.7 في المئة من إجمالي إيرادات نهر الفرات المائية تأتي من أراضيها، فيما تُسهم سوريا بنحو 11.5 في المئة، بينما العراق لا يُسهم بأية كمية. وكانت هذه المبررات عاملاً مساعداً وأساسياً لاستمرار السلطات التركية في حرمان العراق المياه، إذ وصلت حصته من نهر الفرات إلى ثلث الكميات التي كانت تصله قبل بناء السدود. كذلك انخفض مستوى مياه نهر دجلة الداخلة إلى العراق، من 20.93 مليار متر مكعب في السنة، إلى 9.7 مليارات مكعبة، فيما توقف نهر ديالى الذي ينبع من إيران عن الجريان نهائياً، بسبب إنشاء إيران سداً على هذا النهر، ما أدى إلى نضوب مياهه.
وضع ينطبق على نهر الكارون الذي يصب في شط العرب آتياً من الأراضي الإيرانية أيضاً. أما بحيرة السعدية، إحدى أكبر بحيرات العراق، فقد جفّت هي الأخرى إثر انحسار المياه عنها منذ عام 2003.
وفي نظر متخصّصين بشؤون الموارد المائية، تكمن معالجة مشكلة المياه في أمور عديدة، من أهمها سعي العراق مع الدول المتشاطئة للدخول في مفاوضات، بغية التوصل إلى اتفاق يضمن الحصص المائية لكل الأطراف طبقاً لقواعد القانون الدولي والاتفاقيات الثنائية. فالاتصالات والمباحثات الجارية مع دمشق «جيدة وتنشط كل يوم». أما مع الأتراك، فهي مستمرة بغية إفهامهم أن قلة المياه في نهري دجلة والفرات سيسبب تحويل ملايين من الدونمات الزراعية إلى أراضٍ قاحلة، ولا سيما أن تركيبة الأرض العراقية تحتاج إلى كميات كبيرة من الماء.
أما في ما يتعلق بحكام طهران، فإنّ التعاون محصور معهم في تبادل الزيارات، وليس هناك أي تطور مائي مهم سوى ما يصدر من حين لآخر من مسؤولي الحكومة العراقية من اتهامات للسلطات الإيرانية بتلويث المياه التي تصب في شط العرب.

دول الجوار تبتز العراق من خلال عروض مبادلة الماء بالنفط

الأزمة في شط العرب تهدد بإقفال الموانئ البحرية وحرمان البلاد منفذاً بحرياً

أما الأمر الثاني الذي يجمع المحللون والخبراء على ضرورة تحقيقه، فهو السياسة المائية لاستغلال الموارد، ضمن خطط مستقبلية، وإعطاء أهمية بالغة للمياه الجوفية لأغراض الاستثمار الطويل الأمد، من خلال استعمال مقدار الاستثمار الأمين الذي يضمن ثبات ضغط أو مستوى الطبقة المائية لفترة طويلة، وذلك من خلال حفر الآبار وفق أسس عملية تعتمد على حجم الإنتاج والنوعية، ومنع الاستثمار الجائر في المناطق البعيدة عن مصادر المياه السطحية. أضف إلى ذلك ضرورة إحكام السيطرة على الموارد المائية من خلال إكمال منظومة السدود الكبيرة، كسدّ بخمة وسد منداوة وسد بادوش وسد طق طق، وتنفيذ خطط لحفر الآبار للأعوام المقبلة.
ووفق المدير العام لوزارة الموارد المائية، عون ذياب، فإن معالجة نقص الموارد المائية في العراق ومواجهته تتحقق من خلال ترشيد استهلاك المياه، والتوعية بطرق إدارة الموارد المائية، ومنها اتباع أساليب الري على طريقة التنقيط والرش، وإزالة المخالفات والتجاوزات ضمن المشاريع الإروائية، فضلاً عن وضع الخطط الدقيقة لتشغيل منظومة السدود والخزانات للاستفادة القصوى من التخزين والوارد المتوقع، وتقليص بعض المساحات المروية غير المجدية، وتكثيف الحملات الإعلامية عن طريق وسائل الإعلام للحثّ على ترشيد الاستهلاك والاستثمار العقلاني للمياه والحد من الهدر.
ويكتسب ملف شبح التصحّر، مع مرور الأيام، اهتمام النواب والسياسيين العراقيين، حتى إن البعض بات يضع مخاطره في مصافّ التهديد الأمني الناجم عن الاحتلال وعقلية التكفير. ويشير النائب جمال عبد المهدي البطيخ إلى أن الخطر الأكبر يكمن في سلوك دول الجوار «التي تعمل على ابتزازنا، من خلال التصريحات الرسمية التي تطالب صراحة بمبادلة الماء بالنفط».
ويحمّل البطيخ تركيا مسؤولية كبيرة في تدهور الوضع، من خلال مشاريع وسدود الكاب وأليسوا، إذ سيخزن مشروع الكاب وحده 100 مليار متر مكعب من المياه سنوياً، أي ثلاثة أضعاف ما تخزنه سدود سوريا والعراق مجتمعة. وقد وصل الأمر بالنائبة المستقلة صفية السهيل إلى الدعوة لتدويل مشكلة شح المياه، وعرضها على الجامعة العربية والمحافل الدولية، لأن انخفاض مستوى المياه في شط العرب أدى إلى تفاقم مشكلة الملوحة، التي أدت بدورها إلى عرقلة وانحسار وربما تلاشي دخول العبّارات الكبيرة الناقلة للنفط إلى الموانئ العراقية، ما قد يحرم العراق مرافئه البحرية في المستقبل.
ولأن وزراء حكومة نوري المالكي لديهم ميل فطري لتحميل عهد «النظام البائد» مسؤولية كل مصائب بلادهم، فإنّ وزير الموارد المائية عبد اللطيف رشيد رأى أن ما تعانيه الموارد المائية هو بسبب نظام إدارة الموارد في العراق «القديم، الذي عانى الإهمال لسنوات طويلة».


... وللفساد حصّته

قبل أكثر من عامين، أحيل مشروع بناء أحد السدود في السليمانية إلى المناقصة. وطُلب من صاحب العرض الأفضل، ومن شركته، إدخال شركة أو شركات أجنبية معه لنيل رخصة التنفيذ، ففعل. اتفق مع شركتين، واحدة إيطالية والأخرى تركية، قبل أن تبرز مشكلة، وهي: من المسؤول عن تكلفة المشروع؟ حكومة إقليم كردستان، أم الحكومة المركزية؟ أخيراً حُسم الجدل بأن الحكومة المركزية هي صاحبة المشروع. إلا أن العراقيل استمرت، لوجود شركة إيرانية تريد الحصول على المناقصة، رغم أن عرضها أغلى بفارق كبير. وطوال عام كامل، لم يُوَقَّع الاتفاق، إلى أن جاء مَن يبلغ صاحب الحق في تنفيذ المشروع أن هناك من يستطيع استحصال موافقة حكومة نوري المالكي (الصورة) على إبرام العقد في مقابل سبعة ملايين دولار «حصة الأحزاب».
(الأخبار)