مدينة الأسوار تستذكر مأساتها ومدينة السلام تلعق جراحها عكا ــ فراس خطيب
لم تعد الهموم سراً في مدينة الأسوار عكا. تتجلّى في كل مكان في البلدة القديمة. الأماكن المغلقة. الزاويا المظلمة. في عيني صيّاد عائد لتوّه بشباكه الفارغة، وامرأة تبيع عصير الرمان لسائح يعشق «طعام العربات». تراها في أماكن أثرية محاصرة، وبيوت أغلقت وأضاعت مفاتيحها. في مجالس العاطلين من العمل، واكتظاظ السوق المؤقت مع قدوم الأعياد فقط. لكن من وراء مشهد الحزن قصة أخرى، عن عشق وصل حد الإدمان: «هل تعرف ما هي أجمل الأشياء في مدينتك حيفا؟ »يسأل أحد «شبّان السوق» ويجيب من دون أدنى انتظار: «أن ترى عكا من على جبال الكرمل»...
غريبة تلك المدينة، غبْ عنها إن أردت، وعد حينما يشاء القدر. ستراها كما عهدتها، أشد تعباً. لكن ابتسامتها لم تغب رغم ما يحدق بها. صباح الخير إذاً، في سوق البلدة القديمة، عشية الذكرى السنوية لـ«أحداث الغفران».
في مثل هذا الأسبوع، قبل عام، انفجرت عكا. اعتدى عدد من شبان المدينة اليهود على عربيّ قاد سيارته ليلة الغفران، في أحد أحيائها الشرقية. انتفض عرب المدينة، وخصوصاً سكان البلدة القديمة، واندلعت المواجهات. حلّت الذكرى السنوية وجاء عيد الغفران ثانية، ليشلّ الحياة قاطبة في المدن المختلطة. عاد الخوف من تجدد الأحداث. انتشرت الشرطة الإسرائيلية وفرضت حصاراً على البلدة القديمة التي يسكنها العرب. احتلت «نقاط التماس» في الأحياء المختلطة الحديثة. حصارٌ تفرضه مناسبة دينية في دولة تعتبر نفسها «علمانية».
أحداث الغفران كانت وليدة سنوات من الحال السيئة التي يعيشها عرب عكا، تحديداً العالقون في البلدة القديمة. يبدو العيش مثل التحدي. أسوار المدينة التي قهرت نابليون قبل مئات السنين، تحتمي اليوم بناسها، لتظل مشهداً أثرياً تغطيه مدافع حديدية على قمة السور. لا أسنان لها. لا رعب منها. إنها مكان لمتعة الأطفال وابتسامة سائح يلتقط الصور.
تمر من شوارع المدينة القديمة، لا تسأل الناس عن أحوالهم. يكفي النظر إليهم لترى أحوالهم بأم عينك. «لا تظن أن هؤلاء الشبان يجلسون هكذا لأن اليوم عطلة. حياتهم كلها عطلة»، يقول أحد العاطلين من العمل من البلدة القديمة. يستعيد أياماً أجمل عن مدينة الأسوار. «كان المئات منا يخرجون إلى العمل في الصباح. اليوم لا يقبلوننا، الروس (المهاجرون) احتلوا كل شيء ونحن هنا عالقون». ينتقل إلى جانبه الشخصي. لديه أربع بنات «وصبي سيأتي في الشتاء إن شاء الله». يبتسم. ماذا لو جاءت عروس أخرى؟ يجيب: «سأفرح أكثر. هل هناك أجمل من قدوم العروس؟».
في «البلدة الجديدة» التي شهدت المواجهات، كل شيء عاد إلى ما يرام خلال عام. لا أثر لدمار المواجهات منذ العام الماضي. الشوارع رمّمت، والواجهات الزجاجية عادت إلى ما كانت عليه. عدا العائلات الفلسطينية التي أحرقت منازلها، لم تعد إلى مكان سكناها. وجدت مكاناً «أكثر أمناً» في «مدينة التعايش». ظاهرياً فقط، عادت الحياة إلى طبيعتها، ليظل عمق المأساة من دون ترميم.
عشية الذكرى، دارت جريدة عبرية في أروقة السوق، تبشّر على صفحتها الأولى بإعداد «وثيقة التعايش» في المدينة. وثيقة وقعها عدد من الشخصيات العربية واليهودية. تقول الجريدة إن النقاش احتدم كثيراً «إلى حين التوصل إلى حل». ما هو الحل يا ترى؟ كيف لوثيقة لا يعلم بها الناس أن تكون «حلاً» لوضع راكمته السنوات؟
يسكن عكا نحو خمسين ألفاً، ثلثهم من فلسطينيي الـ48. يقطن ثلث العرب البلدة القديمة، وتعيش البقية في أحياء المدينة الجديدة. عددهم يزداد من عام إلى آخر، ما استدعى استيعاب الكثير من اليهود والمستوطنين لـ«الحفاظ على الغالبية اليهودية». تمشي بين زقاق البلدة القديمة. لا تكترث للحر المتسلّل في أروقتها. ترى الهموم جاثمة في كل زاوية. سائح يلتقط صورة لطفل يطل من شبّاك بيته. صورة قد تظل ذكرى من زيارة مدينة الأسوار، لكن قصة الطفل ستبقى مجهولة على هامش الرحلة. تمشي وتمشي من دون ملل. تستوقفك التفاصيل الكثيرة، ترى لافتات «الحجاب قبل الحساب» في بلدة كانت ذات يوم أكثر علمانية.
تمضي من أجل الوصول إلى الميناء. فترتطم برجل تجاوز الستين، يجلس في أحد الأزقّة بين صندوقين، ينظف «شباك» الأسماك. يغضب حين تسأله عن الشباك: «هذه ليست شباكاً، بل شَرَك، فيه 700 صنارة». يفرح الرجل حين يحكي عن البحر، ويحزن حين يعود إلى البر حاملاً «6 كيلوغرامات فقط». لا حاجة إلى أن تكون صيّاداً حتى تفهم أن النهاية حزينة.
حي الفخور هو المحطة الأخيرة. يظهر كأنه جاثم على البحر. أمتار تفصّل الحي عن الشاطئ، من هناك، ترى حيفا مثل كومة أضواء ألقيت على جبل عالٍ. مطاعم تمتد على طول الرصيف الذي رمّمته البلدية. الناس يجولون هناك، غالبيتهم من العرب. عائلات وعشّاق وعروس تلتقط صورة مع الغروب، وسفينة تمر على مقربة منك، تحمل «عامة الشعب» في العيد يرقصون على أنغام الموسيقى الشرقية لربع ساعة.
نصبت البلدية نجمة داوود على كل عمود للكهرباء، لتذكّر الحاضرين بأن «عكا مدينة اليهود». لكن الرموز الحديثة لا تغلب الحقيقة، فالناس يحكون أكثر من النجوم. خلف الأضواء، يعيش سكان الفاخورة في دائرة المهداف، الحي العربي الأكثر «طلباً» للتهويد لقربه من البحر. «أنظر إلى ذلك المطعم، صاحبه اليهودي يشتري البيوت في الحي وهو يبني فندقاً اليوم. هو مدعوم من جهات أكبر منه للتهويد».
من الفاخورة، يوم آخر يمرّ على مدينة الأسوار. يسدل الستار على هموم المدينة العربية. مشهد تراه رائعاً من زاوية الغروب وفي الصور. يمر بائع عصير «الليمون الغريب» ويضفي على المشهد رونقاً. خليط من الموسيقى والموج والضحكات والوجوه المتعبة. تلخص إحدى الفتيات المشهد: «أحب هذه المدينة، أنظر حولك كم يأتون إليها. إنها مدينتي. لكن أخاف من أن يتحول ذات يوم أهل الفاخورة العكيّون إلى سيّاح في مدينتهم».