زفّةكيف الحال يا صديقي؟ تذكّرتك منذ أيام. كنت في زيارة لأقاربي فمرت إحدى الزفات الفلسطينية، وأنشد أحدهم «يا عين كوني صباره... عللي أخذوه البحارة».
سألت إحدى الموجودات عن هذه الأُهزوجة لمن هي. ومن أي القرى في فلسطين؟ ولا سيما أنها تحمل نبرة حزينة ممتلئة بأسى الفراق، فتوصلت بعد جهد جهيد إلى أنها ضاربة في القدم، إلى ما قبل الاستعمار الإنكليزي لفلسطين، وكانت تُغنّى في ذكرى الشباب الفلسطينيين، الذين كانت القوات التركية العثمانية تأخذهم إلى «السفر برلك»، لخوض معاركها خلف البحار، فكان الشباب يُحمّلون من ميناء حيفا انطلاقاً إلى «إسطنبول» ثم يُزج بهم في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
وقد عانى الكثير من سكان فلسطين ولبنان وجنوب سوريا هذا الترحيل، الذي كان يزرع مرارةً في قلوب المرميين في السفن، تماماً كالشباك والصنانير. فكانت تغنّى في حفلات السمر في الأعراس، ويستذكر الحاضرون غائبهم الراحل خلف البحر.
وكان من حالفهم الحظ وعادوا، يستذكرون غناء زملائهم في بواطن السفن المتجهة نحو أعالي البحار بـ«يا محلى فتيل الهوى والنار شعالة/ لون الحزن لوني/ انتي السفينة ودمعي البحر/ لون السفر لوني». وكانت تغنّى بأسلوب حزين متقطّع يبعث في النفس حزناً يحمل السامع إلى شعور هؤلاء في بواطن السفن، وشوق إلى الحبيبة قد بدأ يستعر في استقبال المجهول. وقد سمعت من أحدهم أن بعض الذين عاصروا هذه الأغاني وعاصروا امتدادها ممن رحلوا عن بيروت عام 1982 كانوا قد غنوا أجزاءً منها وهم متجهون إلى أعالي البحار.
عزيزي حنظلة الأغنيات، تغيب عن البال، تُفقَد من الذاكرة، لكنها لا تموت أبداً.
مخيمات الأردن ــــ ربى حسن

■ ■ ■

رحلة ألمانيا

كان عمري 16 سنة، وكنت في سنتي الأولى من المرحلة الثانوية، يومها، كنت أؤمن بالتعايش. يومها كان لدي أمل بالسلام. وحدث أن جاءت لنا المدرسة بإعلان عن منحة تقدمها سفارة ألمانيا لعشرين طالباً «إسرائيلياً» (وهنا نعني من يحملون جواز سفر إسرائيلياً بغضّ النظر عن العرق/ الدين/ الجنس/ اللون/ إلخ) ورغم أنني كنت أؤمن بالسلام، لم أؤمن يوماً بالمساواة التي يتحدثون عنها، ولم آخذ الموضوع بجدية، حتى إنني لم أُنهِ حل الأسئلة التي طُلب منا حلها. لكن بما أنني أتعبت نفسي، أرسلتها إلى السفارة الألمانية، فرُفضت طبعاً! فتاه أخرى من مدرستي حصلت على المنحة! ما شجعني على تقديم المنحة مرة أخرى في سنتي الثانية! لكننيُ رفضت، كمان مرة.
السبب هذه المرة كان مختلفاً، فقد حللت جميع الأسئلة، لكنني، في السؤال الأخير أجبت بما لا يعجب. كان السؤال عمّا كنت سأقول، لو أُتيحت الفرصة للقاء السفير الألماني؟
كان جوابي أنني كنت سأخبره عن العنصرية هنا، وأن هذه الدولة ستتحول إلى رايخ ثالث لو استمرت العنصرية في التنامي بهذا الشكل!
في السنة الثالثة أصبح الموضوع مجرد عناد، سيقبلونني للمنحة رغماً عنهم. سأتلوّن لهم، وسأتحدث «بإنسانية» وأقول أموراً لا أؤمن بها، المهم أن يتم قبولي، لا لشيء، إلا لأواجههم هناك، وأقول لهم هروبكم لن يوصلنا إلى أي مكان، ثمّة عنصرية متأصّلة في هذا المجتمع الذي لا أنتمي أنا إليه!
وبالفعل قُبلت. ورغم شعوري بالذنب، فإن فرحة السفر إلى ألمانيا طمست معالمه!
سافرت «وفشّيت خلقي»، كما أردت دائماً، وعدت أشعر بانتعاش رهيب!
هناك، أفرغت كل المشحون في داخلي، رميته في وجوه الطلاب اليهود الذين رافقونا، تصديت لهم عندما حاولوا أن يظهروا أنفسهم مسالمين ومساكين، وقمت بعمليات «غسيل دماغ» لبعض الطلاب الألمان الذين استضافونا! وأحسست لأول مرة في حياتي بطعم الحرية والديموقراطية. تلك الحرية التي أسمع أنني أحيا فيها، لكني لم أشعر بها يوماً!
فها أنا أكتب، نعم أكتب، لكني أكتب وأنا لا أعرف إلى أين سيؤول مصيري لو أنهم قرروا أن كتاباتي تمثّل خطراً على أمن دولتهم! لكني لن أتوقف، فمن يكتب عن فلسطين يجب أن يعرف أنه ميت لا محالة.
وأنا، قد متّ سابقاً، فلا حاجة إلى الخوف من موتي القادم! وموتي السابق قصة سأحكيها لكم في يوم لاحق، الساعة الآن 2.00 صباحاً، وأنا سطّلت نعساً، وكدت أصبح مصباحاً!
الجليل ــــ أنهار حجازي