المساء في ساحة المهد يدلّل العالقين فيها منذ أيام بنسماتٍ باردة، تتسلل من دون إذن لتخفف من سخونة الحر المهيمن على المدينة، وعلى المؤتمر السادس أيضاً. تلك المدينة المنسيّة من وراء جدارٍ منذ سنوات، تعيش اليوم على «هواء الفضائيات»
بيت لحم ــ فراس خطيب
كانت الشمس في بداية الغياب، وسوق مدينة بيت لحم المتفرّع من ساحة المهد يشرف على نهاية اليوم. كان صاحب محل التصوير ينظر إلى أفق المكان، إلى ماضيه ربما. فقد تجاوز الستين بالتأكيد. محله القديم، يهدي صورة من الماضي إلى الحاضر: علق فيه صوراً التقطت منذ القدم، حين كانت الابتسامة ركن الصورة وفنّها. كلّهم يبتسمون في الاستديو القديم، لكن صاحب المكان ينظر اليوم حوله ولا يبتسم، يحدق إلى الماكنات الضخمة والمصورّين الشبان من بعيد. قد تكون لديه وجهة نظر أخرى، زاوية أخرى، قد يكون له رأي في كل الصور المنقولة، لكنه يظل صامتاً، من سيستمع إليه في عهد العدسات الضخمة؟ ليظل منسياً على أعتاب البث المباشر.
ساحة المهد في بيت لحم تشهد حضوراً إعلامياً: ناقلات بث عملاقة تتزاحم وسط الساحة. مراسلون ينتقلون من مسوؤل إلى آخر، وآخرون يحملون هواتفهم في الزوايا يسترقون معلومة هنا، وأخرى هناك. وثمة من «يعمّر» نرجيلته، ليسرق ظلاً بين البث والآخر. تنوع إعلامي يصل أحياناً إلى الطرفة: إلى أي حدٍ يعتني أهل طوكيو بما يحصل في مدرسة «التيراسنطة» في بيت لحم؟ يسأل صحافي فلسطيني أحد مراسلي الوكالات الآسيوية. الصحافي الآسيوي يجيب ببالغ الجديّة، والشاب العربي يصفن وكأنّه لم يقصد. ببساطة، بيت لحم التاريخية، تعيش في هذه الأيام عنواناً وتاريخاً مؤقتاً، سينتهي ربما مع نهاية البث.
خلال ساعات النهار وبين الجلسات وعند نهايتها، يأتي المسؤولون إلى ساحة المهد، حيث المركز الإعلامي، ومن هناك ينطلقون إلى العالم. قوات أمن تحصّن المكان، وسائحون يختلطون بالمشهد أحياناً. ضجيج المكان هادئ ومحتمل. «في اليوم العادي، في مثل هذه الساعة، لا ترى شيئاً هنا»، يقول أحد سكان المدينة. لكنَّ المؤتمر أيضاً، لا يفرض حياةً احتفالية. فعدد من الشوارع أغلقت لأسباب أمنية، وأخرى فتحت للأسباب نفسها. ثمة من استفاد من الوضع، وثمة من يسكن قريباً من المكان المحصّن عانده الحظ. من لا يملك بطاقات من المؤتمر، حياته ليست سهلة في هذه الأيام.
ثلاثة شبّان يمازحون الفراغ إلى جانب محل الصرافة في السوق. أحدهم يسأل: «من أين أنت»، «من حيفا» جاء الجواب، «محظوظ» جاءت الشكوى. وأضاف «أحبها، لديكم بحر». هؤلاء يحلمون بمغادرة المكان: «مللنا جداً من الحصار، حتى القدس لا نزورها». حين تسألهم عن المؤتمر يقول أحدهم «لا يهمني». وآخر يقول: «أتابع الموضوع، لكن لا أتوقع شيئاً»، وثالث أكثر تفاؤلاً: «ربما سيخرج شيء جيد، لعلهم يتفقون وتعود فتح كما كانت في عهد أبو عمار»، ويشير بيده إلى صورة الرئيس الراحل المعلقة في كثير من المحال التجارية.
هؤلاء يمثلّون حالة من الناس في بيت لحم، يعيشون أجواء المؤتمر بفعل المكان والأجواء، لكنَّهم لا يحملون انتماءً قوياً لما يجري، ويقول أحدهم «هذا أمر أشعره بعيداً عني». وحين انضمت متطوعة أميركية إلى النقاش، ابتعد النقاش عن المؤتمر، وراح الثلاثة يحكون لها عن معاناتهم كفلسطينيين، هناك شعروا بانتماء أكثر، حتى لو كانت لغتهم الإنكليزية ثقيلة، فالمشاعر وصلت.
شاب يقترب من النقاش، «أريد أن أبيع خمسين ديناراً»، فرد الصراف «أرجع غداً، صاحب المكان ليس موجوداً» وضحك. لماذا لم تبعه؟ سألنا الصراف فقال إن «هذا الشاب مسكين، يأتي في اليوم سبع أو ثماني مرات للسبب نفسه، لكنه لا يملك خمسين ديناراً، ولا صاحب المكان سيعود غداً». حين يغيب، يبتسم بعض الشبان، ثم يعودون إلى حديثهم مع المتطوعة الأميركية، لينتهي النقاش دون حسم، فيأتي الشاب مرة أخرى: «أريد أن أبيع خمسين ديناراً».
المدينة المقدّسة كانت تحيا على السائحين والتواصل الجغرافي مع المحافظات المختلفة. لكنّ الجدار المحيط بها، قطعها عن العالم «من يريد العيش بالقليل عليه أن يحيا بين القدس والخليل»، يقول أحد البائعين، ويردّد «ونحن نرضى بالقليل».
مدينة المهد تعيش أياماً خاصة. أعضاء المؤتمر المنهكون من نقاشات اليوم في القاعة، يتنفسون قليلاً مع إطلالة الليل. يحيون صمت المدينة ويتوزعون على أماكن كثيرة هناك، ليكملوا نقاشهم الأزلي أيضاً في مقهى أو مطعم. سيارات أمن تطوف شوارع المدينة الخالية، ناقلات البث تغادر وساحة المهد تصبح أبرد. كانت معكم على الهواء مباشرة مدينة بيت لحم.